تنتاب الكثير منا حمى في إعادة تكرار مفاهيم مغفلة دون تمثل حقيقي لمحتواها ودون دراسة متأنية لأشكال تجليها على ظروفنا الملموسة، لكننا ما زلنا أبعد عن تشخيصها لعدة أسباب، لأننا لا نولي العناية المطلوبة في إنتاج معرفة خاصة بظروفنا. أراضينا ما زالت بكراً، لأننا لا نحرثها، أولا نحرث فيها، إننا نحرث في أراضي الآخرين المحروثة أصلاً، والمجهول من تاريخنا أكثر بكثير من المعلوم، والآلية التي تحكم تطور بُنانا الثقافية والاجتماعية ما زالت أبعد من أن نمسك بها معرفياً. صحيح أننا لن نصل إلى هذا التملك المعرفي إلا بأدوات العصر المعرفية، لكن شريطة تطبيقها الخلاق على هذا الواقع. إن دراسة واحدة متأنية في سيرة رمز ثقافي أو اجتماعي في تاريخ أي بلد من بلداننا، والتعرف على الملابسات التي عاش في إطارها ومنابع تكوينه الثقافي ودوره التنويري خير من ركام من الكلام عن مفاهيم ومصلحات مبهمة، لا يؤدي كلامنا عنها إلا إلى زيادتها إبهاماً. ولو أردنا قياس هذا الأمر على واقعنا الخليجي، لوجدنا أن التحولات التي جاءت مع الاقتصاد القائم على النفط في بلدان الخليج قد أطلقت حالةً من الحراك الاجتماعي والثقافي السريع الذي نجد تجلياته في العديد من مظاهر الحياة، وهو حراك بالمعنى الحرفي للكلمة، فبرغم مرور عقود على هذه التحولات فإن مجتمعاتنا الحديثة ما زالت في حالة صيرورة وتشكل، وهي لم تعرف بعد الشكل النهائي أو الممتد الذي يسمح برصد أدق للظواهر ونتائجها. بعض الباحثين يذهبون إلى أن المدينة الخليجية، من حيث هي الجسم العمراني والسكاني الأساسي لدول الخليج ما زالت تبدو غير مكتملة، ومخترقة بالساحات الرملية الكبيرة، وهذه الملاحظة يمكن تعميمها، فهي في العمق الاجتماعي ليست بأقل بروزاً، بل انها هنا بالذات أكثر حدة وأبلغ في النتائج، ويظهر ذلك أشد ما يظهر في الازدواجية العميقة للقيم وانساق الثقافة ومظاهر الوعي الاجتماعي. فمظاهر العولمة، ثقافيا وعمرانيا، تخترق البنى والمظاهر التقليدية.. وتنشأ مدن حديثة تضاهي المدن الأمريكية والأوروبية، لكن خلف هذه المظاهر الجذابة والأنيقة تختفي مظاهر الكسل والركود في أشكال الوعي، رغم أن التكنولوجيا الحديثة إذ تدخل مجتمعا ما فإنها لا تفعل ذلك بصورة محايدة، إنما هي تحمل معها مؤثرات مهمة تمس الوعي، ولكن «الوعي» الذي ينشأ عندنا بحكم ذلك هو وعي مُشوه إن جاز القول، لأنه يريد التشبه بمظاهر الحياة الحديثة ويزعم في الوقت نفسه تمسكه بمنظومة القيم الموروثة. ليس هذا النوع من الاضطراب أو القلق بين التحديث والتقليد حالة خاصة بمجتمعات الخليج، إنه حالة تعرفها كل المجتمعات العربية بل والمجتمعات النامية كلها التي وجدت نفسها معنية بالتدويل الاقتصادي والثقافي والقيمي الذي يجتاح العالم. غير أن هذه الظاهرة تكتسب طابعاً أكثر حدة عندنا لعدة عوامل بينها الوفرة المالية التي نجم عنها نمط من الاستهلاك الترفي والبذخ الذي ارتفع إلى مستوى القيمة. أليس حرياً بالبحث السوسيولوجي في منطقتنا أن يُولي عنايته للحرث في تربة هذه التحولات العاصفة، وتقصي آثارها ونتائجها المتناقضة، بدل أن ننشغل بتكرار المصطلحات وعلك المفاهيم المجردة، دون «تجليسها» على واقعنا الملموس؟
صحيفة الايام
21 يناير 2009