خلصنا في الحلقتين الماضيتين ان تجربة مسيرة العمل العربي المشترك في اطار الجامعة العربية بمقاطعة مصر على امتداد ما يقرب عقداً من الزمان اثبتت فشلها الذريع، بصرف النظر عن وجاهة دوافع اتخاذ قرار المقاطعة، والاشكالية المعقدة التي سبّبها ومازال يسببها وجود دولة فيما بينهم دخلت في معاهدة صلح وسلام مع عدوهم الاسرائيلي واصطدام التزام القاهرة بهذه المعاهدة بالمبادئ والاسس والمرتكزات للكثير من اطر العمل العربي المشترك، وعلى الأخص المتعلق منها بالدفاع المشترك، فضلاً عن اشكال المقاطعة العربية لاسرائيل، وعلى وجه الخصوص المقاطعتان السياسية والاقتصادية.
ذلك بأن الاشكالية الموضوعية المعقدة كما اثبتتها سنوات مقاطعة مصر تجلت في ان تسيير العمل العربي المشترك في ظل تغييب مصر لا يؤتي بالنفع المرجو على العرب في ضوء صعوبة التعويض عن دورها ووزنها اللذين تركا فراغاً واضحاً بيناً، وان استمرار وجود مصر في اطر مسيرة العمل العربي المشترك للجامعة العربية، حتى مع التزامها بكامب دافيد، وحتى رغم كل الاشكاليات المعقدة التي سببها ويسببها هذا الالتزام على اطر سقف العمل المشترك ضد اسرائيل هو افضل من تغييبها كلياً من هذه الاطر وحتى كل قوى المعارضات الفلسطينية والعربية سلمت بعدئذ بالتعامل الرسمي مع الحكومة المصرية وهذا ما اثبتته تجربة هذا العمل العربي المشترك ذاته منذ اعادة مصر الى الجامعة العربية في اواخر ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن بالرغم من انخفاض سقف مواقف وقرارات العمل العربي الرسمي في معالجة القضية الفلسطينية وفي مواجهة عدوهم الاسرائيلي المشترك بفعل الاشكالية الموضوعية المعقدة التي فرضها التزام القاهرة بكامب دافيد.
ولكن للأسف مازالت تغيب هذه الحقائق عن اذهان بعض القيادات والزعامات العربية خلال تفجر الخلافات الحادة بينها وبين القاهرة، فيعتقدون بإمكانية خلق محاور جديدة تقوم على عزل مصر عن مسيرة العمل العربي المشترك، بغض النظر عن مدى صحة ووجاهة دوافع هذه الرغبة، جزئياً ام كلياً، في الخلافات والمواقف الطارئة سواء المتصل منها بالقضايا المتصلة بالقضية الفلسطينية او غيرها من القضايا الاخرى.
ولئن كان يصح بالدرجة الأولى استحالة تسيير العمل العربي المشترك بتغييب دور مصر وثقلها مهما كانت محدودية ذلك الدور والوزن في ظل التزامها باتفاقية كامب دافيد، فإن ذلك يصح ايضاً بدرجة اخرى باستحالة عزل اي دولة من الدول العربية الاساسية ذات الوزن المشهود المؤثر في مسيرة العمل العربي المشترك، وعلى وجه الخصوص والتحديد سوريا والسعودية. فبدون اشراك هاتين الدولتين في اطر العمل العربي المشترك، وعلى رأسها مؤتمرات القمة العربية يستحيل تحقيق أي نجاح حتى لو شاركت مصر في مثل هذه المؤتمرات.
واذا كنا سبق ان أوضحنا غداة القمة العربية بدمشق الاخيرة في خريف العام الماضي بأنه ما كان ينبغي على أي دولة ان تقاطع أي قمة رسمية اعتيادية مقررة ومتوافق عليها سلفاً، سواء أجاء شكل هذه المقاطعة بالغياب، أو عبر تخفيض مستوى التمثيل الى أدنى مستوى غير معهود، وهو ما اخذته سوريا التي احتضنت القمة وعدد من الدول العربية على القاهرة والرياض، ولاسيما في ظل الوزن والثقل الكبير اللتين تمثلهما هاتان العاصمتان في العمل العربي المشترك. واكدنا ايضاً ان مؤسسة القمة العربية ينبغي ان تعمل دائماً بانتظام وفق آليات محددة ومحترمة من قبل جميع أعضائها (الاقطاب العرب) وعدم تعطيلها او التأثير على أي مؤتمر من مؤتمراتها، سواء من خلال الغياب الكلي او الضغط بتأجيل موعدها او تخفيض مستوى التمثيل فيها.
وربما القليلون هم الذين تذكروا بأن واحداً من اهم عوامل الاصرار على عقد القمة الطارئة حول غزة من قبل بعض المتحمسين لها رغم اتضاح تضاؤل كل فرص نجاح التئامها، بصرف النظر عن دوافع الرافضين لانعقادها، هو الانتقام الدفين من التمثيل المتدني جداً لبعض الدول العربية الاساسية في قمة دمشق والذي رأته الاخيرة بأنه يهدف الى افشال القمة بما انه يشكل في ذات الوقت فشلاً للدولة التي احتضنتها.
وقد تلاقت ارادة هذا “الانتقام” مع ارادات عديدة لعدة دول عربية تحت دوافع مختلفة ومتعددة في ظروف الانقسام العربي الذي ازداد تعقيداً خلال مذابح غزة.
وكان على رأس هذه الارادات رغبة احدى العواصم العربية الخليجية لعب دور قيادي ليس فقط خلال الازمات التي تعترض مسيرة العلاقات الثنائية بين طرف عربي وآخر، او خلال الازمات الداخلية المزمنة التي تمر بها بعض الدول العربية فحسب، بل امتدت هذه الرغبة والطموحات بعدئذ للعب دور قيادي أو “وسائطي” ان صح التعبير، ليشمل حتى الازمات التي تعترض مسيرة العمل العربي المشترك، وما كان ذلك الا احد الاسباب الرئيسية في فشل القمة الطارئة التي احتضنتها مؤخراً حيث رأت فيها بعض العواصم العربية الكبرى الاساسية بأنه دور اكبر من حجم هذه العاصمة الخليجية وانه يشكل تحدياً لها واحراجاً بالاصرار على فرض القمة الطارئة!
صحيفة اخبار الخليج
20 يناير 2009