هكذا هي الحياة، بنيت بطريقة شيطانية محكمة، بحيث إننا لا يمكن أن نحب من دون أن نكره، كما شخّص ذلك الكاتب الإنساني الكبير مكسيم غوركي. غير أن هذه البنية تحوي ما هو أعقد من ذلك بكثير. وأمر الكراهية طالما حيّر فلاسفة ومفكرين وكتّاباً. وقد حذر الكاتب الإنجليزي إيفلين فو (1903 – 1966) من أنهم «عندما يكرهون بشدة، فذلك يعني أنهم يكرهون أمرا ما في دواخل أنفسهم».
لكن، هل للكراهية مقاييس، بحيث تصبح صغيرة أم كبيرة؟ فكتور هيغو يرى أنها دائماً كبيرة ووحشية حتى عند أصغر المخلوقات شأناً. فالكراهية قوية بما هي كراهية، ولا تجد إشباعها إلا في ذاتها، لدرجة أنه حتى عندما تكره النملة فيلاً، فذلك يعني أن الفيل يواجه خطراً.
وعندما تتناسخ الكراهية مرات: كره متبادل بين طرفين، وكره كل طرف لما بداخله، فإنها تصبح مرعبة للغاية. تبدأ كأفكار، ثم أفكار عفنة تصاغ على ورق. لكن ما إن تجد هذه الأفكار مزيداً من معتنقيها، وما إن تنبسط الأرض أمامها حتى تتحول إلى قوة مادية تدميرية هائلة.
وفي ذات يوم مشؤوم قد تحرق الأخضر واليابس.«.. إننا لو خضناها فسنحرق الأخضر واليابس».. هذا بالفعل ما جاء، إضافة إلى عبارات تشم منها رائحة التكفير والجز والهتك والنعوت غير الأخلاقية، في إحدى الوريقات التي وزعت خفية في إحدى مدن البحرين الأسبوع الماضي دفاعاً عن «السياسي المستقل» ورجل الدين النائب جاسم السعيدي. الأخير كان قد أطلق من على المنبر الديني نعوتاً وتهديدات، على سوئها، تهون كثيراً أمام ما جاء في الوريقة. وبقدر ما كانت أفكار الخطبة والخطاب غاية في التدني، بحيث لا تحتاج إلى كبير جهد لردها، فإنها غاية في الخطورة أيضاً. وبعد أن أثارت الخطبة المستعدية استياء واسعاً في البحرين وخارجها اضطرت السلطات المعنية إلى إيقافه عن الخطابة الدينية، كما سبق أن منعت الأستاذ حسن مشيمع من مواصلة إلقاء خطب هي الأخرى ذات نَفَس طائفي. إلا أنها سمحت للنائب السعيدي بالعودة للخطابة مجدداً بعد أسبوع واحد لا غير.
وقبل ذلك كان «الحقوقي/ السياسي» عبدالهادي الخواجة قد استغل مناسبة عاشوراء لخطبة تحريضية أمام الجموع، أثارت جدلاً واسعاً ونقداً حاداً. ولمعرفتي التي لا بأس بها بالخواجة من خلال العمل المشترك السابق أدرك أنه، كسياسي ذي خبرة، يعي استحالة تحقيق ما يدعو إليه لأسباب عقدية/ دستورية وغيرها، إلا أنه يطرح ما يطرح على سبيل «المساومة الخشنة». وبرأيي، أنه بذلك أوقع نفسه في مجموعة أخطاء دفعة واحدة، منها:
أولاً: الجموع المحتشدة لا تقرأ ما يعيه هو من استحالة تحقق ما يدعو إليه. وكثيرون سيفهمون ذلك على أنه دعوة للشروع في «مشروع»/ مغامرة.
ثانيا: بينما سيكون الخواجة محمياً «بعض الشيء» بسمعته الحقوقية الذائعة عالمياً، إلا أن كثيرين سيصبحون ضحايا العنف والعنف المضاد غير المحسوبة نتائجه. وذلك ما كان يفترض من الأستاذ الخواجة أن يتعامل مع الجماهير بمسؤولية وطنية أكبر.
ثالثة: الأثافي هي نسف ألف باء مهنية الحقوقي المدافع عن حقوق الإنسان. لا يمكن أن يقود المرء منظمة مدافعة عن حقوق الإنسان ويقود نشاطاً سياسياً في الوقت نفسه، فلكل أهله. وهذا، للأسف، ما وقع ويقع فيه الكثيرون. وليس لذلك سوى معنى واحد، وهو توظيف العمل في مجال حقوق الإنسان لأغراض سياسية، وهذا ما ينتج حقوقياً/ سياسياً مجروح المهنية على الجهتين.
وفيما نواجهه في البحرين أن مشكلة بعض الزعامات، وخصوصاً الطارئة، هي في اعتقادهم بأنهم يجب أن يحافظوا على إثارة ستار الدخان الذي يريدون من ورائه أن يظهروا أنفسهم أمام الجموع عميقي الرؤى. أما مشكلة الجموع، بحسب فريدريك نيتشه، هي أنها كثيراً ما تعتبر عميقاً كل شيء لا تستطيع رؤية قاع له. وهكذا، ففي كل عهد يمكن البحث بين القادة الشعبيين عن أكثر بني البشر شروراً، كما يرى توماس ماكولاي. بعض هؤلاء الزعماء، وإن حفظوا نصوصاً عن ظهر قلب، أميون، بالمعنى الدلالي للكلمة، والأميون يملون بدلاً من أن يبدعوا شيئاً مفيداً.
تُرى، هل يحدث ذلك من فراغ؟ ليس من فراغ بالطبع، لكن لكي تملأ القوى المناهضة للإصلاح، بوعي أو بغير وعي، ذلك الفراغ الذي مازالت تتركه القوى السياسية المعارضة والقوى السياسية المسيطرة معاً على طريق الإصلاح المتعثر، الذي يحتاج إلى مراجعة جدية مهما كيل له من عبارات المديح. ويجري الذي جرى فقط؛ لأنه، كما في المسرح، عندما يختفي الأبطال الحقيقيون أو يذهبون في استراحة يخرج المهرجون على الخشبة. لن يلعب قادة المعارضة الحريصون على مضي الإصلاح قدماً، ومثلهم في الحكم من له مصلحة في ذلك، دورهم إلا عندما يكونوا قادة يمتلكون صفات وقدرات القادة المحترفين. لكن القدرة الأهم، برأيي، هي القدرة على معرفة روابط السبب/ النتيجة في قراءة وتفسير مختلف الظواهر الاجتماعية، القدرة على الفصل ما بين البذرة وقشرتها فوراً، معرفة أن الفئات الاجتماعية المختلفة قابلة للغليان عند درجات حرارة مختلفة، وأن هناك درجة ما يتحقق معها الغليان الشامل.. وأن الأخطار المحدقة من آثار ما يكوي العالم من نار الأزمات الشاملة يجب أن يقابلها ليس مسؤولية أكبر من قبل طرفي الحكم والمعارضة، بل ودرجة أكبر من تقاسم المسؤولية بينهما، وبالبحث عن الحلول عبر مساومات ليست «بالخشنة» بالضرورة. في مقدمة تلك الحلول، معيشياً، حل مشكلة الفقر بعد الاعتراف بها وليس الإدعاء بالقضاء عليها؛ لأنه، ودائماً، في الصراع ما بين العقل والقلب تنتصر المعدة. وعلى مستوى الحريات إطلاقها لتطلق بدورها طاقات الجماهير الخلاقة في بناء الدولة والمجتمع. إذا امتلك القائد، هنا وهناك، هذه الموهبة فسيتمكن من استبعاد الخطأ الأساسي الذي يتراءى في البداية طفيفاً.
وسواء في فترات قوته أو ضعفه أثبتت التجارب دائماً أن التيار الوطني الديمقراطي وحده القادر على طرح فكرة المشروع الوطني الحضاري الذي يمكن أن يصبح في النهاية برنامج قوى المعارضة من أجل التغيير نحو الأفضل، ويصبح الأساس الواقعي لحوار بين هذه القوى والقوى السياسية المسيطرة.
صحيفة الوقت
19 يناير 2009