نموذجان يبدوان شديدي التناقض لكنهما متماثلان، وهما حالتان تعبران عن هشاشة جذورنا الحضارية في المنطقة وفوقية التحديث، وسرعة التحولات ومخاطرها.
النموذجان الفرديان متضخمان، يريدان هيمنة لا يحصلان عليها بسبب عدم التمرس في شتى جوانب المعرفة والسياسة، لكنهما يحاولان فرض هذه الهيمنة بكل شكل بما فيه القوة.
الداخل النفسي الذي سبّب ذلك يعود للجذور، لسلق المعرفة، ولعدم التجذر فيها، ولحفظ بعض الجمل والشعارات وأرباع الحقائق، أي أن التسطيح الفكري يسيطر، ولا يقبل المنفصم أن يتعب ويطور أدواته الفكرية والعملية، يمتنع عن القراءات المكثفة، يتسرب إلى عادات سيئة تضعف من خلايا تطوره، ومن مهاراته المعرفية والاجتماعية، ومع ذلك فهو مصمم على فرض سطوته بأي شكل يـُتاح له وعدم القبول بالتعلم والاستفادة من تجارب الآخرين لأنه يرفض أن يكون في منزلة المتعلم.
الحالتان تتحولان إلى انفصام حين ينمو العمر بلا ذلك التطور المفترض بل يجد كل نموذج انه يتقهقر وتظهر نماذج في الحياة أكثر صحية وتطوراً وثقافة، لكن كل نموذج مرضي لا يعترف بذلك، فهو فقط من يعرف ويتطور وكل هزاله الفكري وإنتاجه المحدود وشحوب ثماره السياسية يعتبرها تحفاً.
ولأن التوجه للدين والتراث هو مظهر من المظاهر السائدة، مثله مثل مظهر التوجه للغرب هو الآخر يغدو سائداً، فإن النموذجين يتوجهان بشكل مرضي إلى هاتين الناحيتين، ويطبعان عليهما شخصيتيهما.
يغدو المظهر الديني مرضياً، ويتحول إلى حقد وكراهية للحداثة وللمادية وللجدل، ويتشكلن هذا المرض في علامات الوجه ومظاهر البيت، ويصبح النموذج الذي كان أمس حداثياً شكلانياً كذلك يصيرُ متديناً متعصباً.
والآخر كذلك تغدو له الحداثة شكليات، وتصبح تهجماته على الدين هي الطريق للتطور.
إذا قال الأول يجب إزالة أمريكا، يقول الآخر أمريكا هي النموذج الفذ الوحيد للحياة.
تتحول الحداثة أو الدين إلى أصنام يجب ضربها أو عبادتها بشكل كلي.
وإذا كانت الفكرتان منتشرتين بشكل واسع، لكن لدى العصابي تتحول إلى إسطوانة يومية، وسبباً في الخصومات والعراك.
لكن أن تغدو الحياة كلها هي هذه الأسطوانة التي تسمع في الليل والنهار، وأي من ينتقص منها، أو يغمز إليها يصبح عدواً كافراً، تلقى عليه الكؤوس والجمل النابية والأحذية، وتسيل الدماء من أجلها، في كل حفلة، وفي كل سهرة وندوة، تغدو مثل هذه الحياة جحيماً لكن ليس للعصابي، الذي يراها دوره التاريخي العظيم الذي يؤديه.
قد يشعر ببعض الأسى أو التأنيب لكن ذلك يغدو عابراً، فقد قام بواجبه للدفاع عن فكرته العظيمة الدفاع عن الدين أو الحداثة أو القومية المنتهكة أو العروبة المداس عليها، وما شئت من قضايا.
لا يحدث أي تغيير بعد تلك المعارك البهلوانية على شاطئ الوعي هذا، لأن الذات لا تشعر بالذوات الأخرى، لأنها فقط الوجود الوحيد، أما الغير فهم نكرات، فهي الذات العظيمة التي تؤدي دورها بين الخونة والمتخلفين، هي حاملة الرسالة القومية أو العلمانية!
لا تقود المعارك إلى شيء، لأن معاركَ هذه الذات المتضخمة كلها صراخ، وحدة وغضب، واستهانة بمشاعر الآخرين، وحضورهم وآرائهم، ويجد المتضخم ان في كل كلمة غمزة إليه، وفي كل نقد ضرب لشخصيته، وتحد لأهميته!
تستمر مثل هذه الممارسة لسنوات طويلة، نزيف يومي دائم، من دون أن يقدر على وقف النزيف، ويتمترس بقدسية ما أو برمزية شعبية سياسية محبوبة فيزايد عليها زيادة مخيفة، ويظهر بمظهر المنافح الأوحد دونها، ولكن هذه المدافعة لا تظهر بصورة عقلانية، تقود إلى تطورها ومنع أخطارها ومشكلاتها، ولحمايتها المستقبلية.
والانهاك العصبي يقود إلى مزيد من التدهور والانقطاع عن التطور الفكري الخلاق، وإلى الكثير من العادات التغييبية للوعي وللنقد، وإلى تصاعد الحدة.
فحين لا تقود إهانات الناس على مدى هذه السنين إلى الاعتذار والتراجع عن هذه الصدامية العنيفة، بل إلى مزيد من الانتفاخ والغطرسة، يصبح النموذج في كلا الحانبين، في حالة انحدار إلى خاتمة المأساة، فقدان العقلانية بشكل كامل.
إن المشكلات مثل عدم الصبر على القراءة والإنتاج، والرغبة الحارقة في الشهرة والعظمة، التي تصبح عملية تسلق، وإلى تعدد الشخصيات، فهنا بطل عظيم، وهناك زاحف للمال وتقبيل الإيدي، هنا نظيف وشريف وسام، وهناك ملطخ وتافه، هنا رفيع في القمة وهناك متسلق، كل هذا يقود لشروخ الذات، ولعدم مراكمة الإيجابيات بصبر طويل ونحت في الصخر.
المزايدات تصبح لقضايا خارجية، لا تكلف الذات شيئاً، ويمكن ممارسة البطولات فيها، أما أن يتشكل موقف نضالي واقعي وطني متواصل فهو غير ممكن.
يحدث جنون العظمة حين يطمح لأهداف ضخمة عالية ونقل الذات للنجوم على ريش الدجاج، في حين يكون العمل هزيلاً، والأفكار الناتجة ضحلة، والتكرار وتشغيل إسطوانات الشعارات والعنتريات الثورية، هو شكل إخفاء ضحالة الذات.
كثيرٌ من الناس يدركون قدراتهم ومستوياتهم فيضعون أهدافاً بحجمها، يعيشون ببعض التضاد والصعوبات، لكنهم يعيشون أسوياء، ولا يفرضون على الآخرين أمراضهم، وعجزهم عن الخلق والتطور. لا يحولون مشاكلهم وعصابهم إلى معارك خارجية، كأن الذات المعذبة تريد الافتراس وسحق الآخر.
صحيفة اخبار الخليج
19 يناير 2009