في مقال سابق نشر في (11/ديسمبر/2008) أوضحنا بأن، تأكيدات قمة العشرين لبلدان الاقتصادات المتقدمة والصاعدة التي عقدت في نيويورك في الخامس عشر من نوفمبر الماضي وقمة تجمع آسيا والمحيط الهادئ (ايبك - APEC) التي عقدت في الأسبوع الأول من ديسمبر الماضي، على عدم اللجوء إلى أية إجراءات حمائية خلال سنة من اندلاع الأزمة (في سبتمبر 2008 بانهيار مصرف ليمان براذرز الأمريكي) كي لا تتسبب تلك الإجراءات، ويقصد بها الحمائية (Protectionism)، في تعميق الأزمة المالية والاقتصادية العالمية - أوضحنا بأن ذلك الالتزام الأدبي لا يعد ملزماً للأطراف التي شاركت في صياغته.
فالخلاص الفردي للدول أسبق وأكثر توفراً وإغراءً من تحقيق أهداف التثبيت الاقتصادي عبر الأعمال المنسقة المتعددة الأطراف.
بالأمس بادرت عدة دول لاتخاذ إجراءات حمائية انفرادية لمواجهة تفاقم الأزمة داخل حدودها الجغرافية الوطنية. روسيا رفعت الرسوم الجمركية على السيارات الأجنبية لتشجيع الطلب على السيارات الوطنية، كما لجأت كل من الهند وفيتنام إلى رفع الرسوم الجمركية على الواردات هذا العام، وهو ما أدى إلى تنشيط آلية الإجراءات المضادة للإغراق (Anti-Dumping Measures)، ما أفضى بدوره إلى ارتفاع دعاوى التقاضي التجاري على الصعيد الدولي، فسجلت نسبة ارتفاع قدرها 40٪ في النصف الأول فقط من عام .2008
وسمحت التخفيضات الضريبية الطوعية الانفرادية التي قام بها عدد من الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية إلى المستويات الأدنى من التزاماتها المقررة بموجب اتفاقية التجارة في السلع، إلى عودة هذه الدول عن تلك التخفيضات برفع سقف الرسوم إلى مستوى الالتزام الذي لا تترتب عليه أية خروقات للاتفاقية.
وبحسب المعهد الدولي لأبحاث السياسات الغذائية في واشنطن فإنه إذا ما قررت جميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية العودة إلى سقوفها الضريبية الأصلية المقررة لها بموجب اتفاقية التجارة في السلع فإن من شأن ذلك أن يضاعف معدلات الضريبة الجمركية ويؤدي إلى خفض التجارة العالمية بنسبة 7,7٪.
وكان لابد أن يؤدي النزوع للحمائية تحت ضغط الأزمة العالمية إلى تراجع صادرات معظم بلدان العالم، وهو ما كشفت عنه البيانات الأولية التي أرسلتها الدول الأعضاء في البنك الدولي إلى إدارة البنك وأشارت إلى تراجع صادراتها في عام 2008 حتى شهر نوفمبر برقمين صحيحين (أي من 10٪ وما فوق)، ومنها على سبيل المثال تشيلي وكوريا الجنوبية وتايوان التي بلغت نسبة تراجع صادراتها 20٪.
وهذا على أية حال ديدن الساسة الذين يقودون حكوماتهم، إذ ما أن يشعروا بوطء نزف الوظائف (ارتفاع عدد العاطلين) والأجور (تراجعها أو تجمدها)، فإنهم سرعان ما يلجأون إلى الإجراءات الحمائية.
ولسوف تتجاوز هذه الإجراءات القيود الكمية (Quantitive Restrictions) التي أتينا على ذكرها والمتمثلة في ترفيع سقوف الضرائب الجمركية على الواردات السلعية، لتطال سلة القيود غير الكمية (Non-Quantitive Restrictions). وهذه القيود، كما هو معروف، أكثر تأثيراً على التجارة الدولية وأصعب على الإزالة من القيود الكمية، الأمر الذي يحد تفسيره في حرص الشركاء التجاريين في مفاوضات تحرير التجارة العالمية، المتعددة الأطراف والثنائية، على تحويل القيود غير الكمية إلى قيود كمية كي تسهل عملية تخفيضها ومن ثم إزالتها. حدث هذا إبان مرحلة التفاوض في إطار ‘الاتفاقية العامة للتجارة والتعرفة الجمركية (GATT) ولاحقاً في إطار منظمة التجارة العالمية’.
ولذلك فانه من المرجح أن تلجأ عديد الدول، تحت تأثير الأزمة الاقتصادية العالمية وانعكاساتها السلبية على الموازين التجارية وموازين المدفوعات، إلى استخدام القيود غير الكمية التالية من أجل حماية منتجات صناعاتها المحلية وتقليص وارداتها إزاء تقلص صادراتها وهي:
الاشتراطات الصحية.
اشتراطات الصحة والسلامة.
الاشتراطات البيئية.
القيود الفنية المتصلة بالتجارة (Technical Barriers to Trade) مثل متطلبات واشتراطات الترخيص والتوثيق (Licensing and Certification).
إضافة إلى ذلك من المتوقع أن يتم اللجوء إلى الدعم (Sybsidy) واللعب بورقة سعر الصرف (خفضه) كأدوات حمائية تكميلية. فالولايات المتحدة مثلاً عندما تقرر حكومتها وأجهزتها التشريعية تقديم حزمة مالية ضخمة لدعم شركات السيارات الأمريكية الرئيسية الثلاث (جنرال موتورز، فورد وكرايزلر) العاملة في مدينة ديترويت، فإنها إنما توفر ميزة تنافسية لهذه الشركات قبالة الشركات الأجنبية المنافسة لها.
وفعلت الصين الشيء نفسه، إذ قررت حزمة واسعة من الدعم لشركائها، لاسيما ذات الوجهة التصديرية التي حظيت بتسهيلات وحسومات ضريبية على صادراتها شملت 3700 سلعة من أجل تحفيز مبيعاتها السلعية في الخارج.
وهذا تحدي آخر جديد يواجه جولة الدوحة (الجولة التاسعة) من مفاوضات تحرير التجارة العالمية في إطار منظمة التجارة العالمية التي يلاحقها الفشل تلو الفشل منذ إطلاقها في الدوحة نهاية عام .2001
فبعد عقدين تمتعت فيهما التجارة الدولية بالانفتاح وتذليل العوائق التجارية، الكمية وغير الكمية، حيث انخفضت سقوف الضرائب الجمركية عالمياً من 26٪ في المتوسط في عام 1986 إلى 8,8٪ في عام ,2007 وتضاعف خلالهما حجم التجارة العالمية في المتوسط على غرار إجمالي الناتج العالمي، بما يشمل ذلك تضاعف حصة الدول النامية من الصادرات العالمية منذ عام 2000 إلى 37٪ في عام 2007 - بعد هذين العقدين من الازدهار فإن شبح الحمائية يعود ليطل من جديد مهدداً هذه المكاسب.
صحيفة الوطن
18 يناير 2009