على اثر توقيع الرئيس المصري الراحل انور السادات اطاري اتفاقية كامب دافيد عام 1978م تداعت معظم الدول لعقد قمة طارئة في بغداد لمعارضة توقيع مصر تلك الاتفاقية، وخرجت القمة بقرارات تفصيلية بمقاطعة مصر في مختلف المجالات السياسية والاقتصادية والاعلامية والثقافية والاجتماعية، كما تقرر نقل مقر الجامعة العربية من القاهرة إلى تونس. لكن بعد عشر سنوات من تاريخ اصدار تلك القرارات تم العدول عنها واعادة المقر إلى القاهرة، وذلك لفشلها في تقديم البديل عن غياب الثقل والوزن المصري في ساحة الصراع العربي – الاسرائيلي.
ولم تستطع القمم العربية بالطبع التي عقدت طوال هذه الفترة أن تتخذ مواقف ممانعة جدية متماسكة تتصدى بفاعلية لاسرائيل وحلفائها الغربيين، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. وكان الامتحان العسير الأبرز والفاضح بلا رتوش لهذا العجز جاء خلال اجتياح اسرائيل لجنوب لبنان عام 1982م ومحاصرتها لأول عاصمة عربية، غير القدس، في تاريخ الصراع العربي – الاسرائيلي منذ حرب 1948م في ظل صمت عربي مطبق.
والسبب الرئيسي لهذا العجز ليس لخروج القاهرة من الصراع العربي – الاسرائيلي بتوقيعها معاهدة صلح وسلام منفردة مع اسرائيل فقط، بل لأن لم تستطع ولا دولة واحدة من دول قمة بغداد ان تعوض أو تملأ الفراغ الذي خلفه انسحاب مصر من الصراع العربي – الاسرائيلي ذلك أن دور مصر المحوري في القضية الفلسطينية، كما في الصراع العربي – الاسرائيلي عامة محكوم، موضوعيا، بالجغرافية، موقعا في المفصل الفاصل بين المشرق العربي والمغرب العربي، وموقعا جغرافيا سياسيا استراتيجيا عالميا، وموقعا جواريا ملاصقا لفلسطين، ووزنا سكانيا وحضاريا، علاوة على التاريخ والتراث المشترك عربيا ودينيا.
فمصر باختصار ليست هي التي تختار او لا تختار الدخول في الصراع العربي – الاسرائيلي، بل عوامل الجغرافية والتاريخ والثقافة هي التي سياسيا تحدد وجهة مصر، شاء حكامها في أي عصر أم أبوا، وهذه هي العوامل التي تفرض نفسها ان تكون ضمن هذا الصراع، بل في قلبه إذا ما أرادت ان تحافظ على أمنها القومي، واذا ما اراد العرب برمتهم الحفاظ على أمنهم القومي المشترك. وهذا ما ادركه جيدا ووعاه بعمق الرئيس المصري والزعيم العربي الراحل جمال عبدالناصر.
والدول الفاعلة في النظام العربي الاقليمي، في ظل مقاطعة مصر، هي نفسها وإن كانت بدرجات متفاوتة لم تكن مستعدة استعدادا حقيقيا لأن تشكل جبهة ممانعة حقيقية في وجه اسرائيل وأمريكا ناهيك عن انشطارها بعدئذ إلى محورين متصادمين، الأول هو محور ما أطلق على نفسه “جبهة الصمود والتصدي” والتي تشكلت من سوريا وليبيا والجزائر واليمن الجنوبي ومنظمة التحرير الفلسطينية ومع أن دول هذه الجبهة أفضل نسبيا في الممانعة من المحور الثاني، لكن بالمزايدة “الثورية” الكلامية. أما الثاني فهو محور “المعتدلين” وعلى رأسه السعودية ودول مجلس التعاون وبقية دول قمة بغداد الأخرى.
وشهدت الساحة العربية حينذاك حربا باردة جديدة مريرة في المزايدة على القضية الفلسطينية كالحرب الدائرة الآن في المتاجرة على دماء غزة وإن كانت الأولى أقل ضراوة من الثانية الحالية.
والأهم من ذلك فقد أدت مقاطعة مصر الى تقطيع أواصر العلاقات ما بينها وبين الاقطار العربية، ليس على الصعيد الرسمي فحسب، بل الأخطر من ذلك على مختلف الاصعدة الشعبية. ففي النظام الرسمي العربي المحكوم بالهيمنة الشمولية لكل أنظمته على شعوبها يستحيل تفادي تأثير وانعكاس قطع العلاقات الرسمية بين أي دولتين عربيتين على العلاقات الشعبية العربية. وفي الحالة المصرية – العربية، موضع حديثنا، فقد لحقت المقاطعة العربية أشد الضرر ليس بالشعب المصري فقط، ولا الحكومة المصرية، بل بالشعوب العربية جمعاء من جراء تمزيق أواصر العلاقات بينها وبين شقيقها الكبير الشعب المصري.
فلا مصر إذن تستطيع أن تتخلى عن الدول والشعوب العربية وتقاطعها، ولا هذه الاخيرة دولا وشعوبا، تستطيع ان تتخلى عن مصر وتقاطعها.
ولا يستطيع الشعب المصري، حتى بغالبيته الساحقة إذا ما وقفت ضد حكومتها، أن يؤثر بوزنه وبكل قواه السياسية المعارضة لكامب دافيد تأثيرا فاعلا وكافيا في ظل انسحاب قيادته أو الحكومة المصرية. نعم هنالك تأثيرات وممانعات متفاوتة الحجم من فترة إلى اخرى، وبخاصة بعد مجيء الرئيس الحالي حسني مبارك إلى السلطة قبل ما يقرب من 30 عاما لكن يكذب أو يوهم نفسه من يعتقد أن أقوى تلك التأثيرات الشعبية والممانعات بامكانها ان تعوض عن وزن مصر، حكومة وشعبا معا، بعد انسحاب الأولى (الدولة) من الصراع العربي – الاسرائيلي بتوقيعها كامب دافيد، وتلك هي الاشكالية التي لم يفهمها الكثيرون والتي مازال الشعب المصري، كما قواه الوطنية السياسية والشعوب العربية وقواها السياسية الوطنية تعاني منها منذ ذلك الانسحاب المؤسف.
كان الخطأ الاساسي في قمة بغداد هو في تسرعها الشديد باتخاذ تلك القرارات بعد بضعة اسابيع فقط من توقيع اتفاقيات كامب دافيد تحت تأثير العواطف الجامحة ورغبة بعض الدول وراثة الزعامة المصرية أو على الادق الوزن المصري المؤثر على الساحة العربية وفي أحسن الحالات سوءا كان لا مناص بالطبع من استمرار العمل العربي المشترك في اطر الجامعة القائمة أسسها على الصراع العربي – الاسرائيلي وعدم حضور القاهرة اجتماعات أطر التعاون المشترك التي تتناقض مع التزاماتها بكامب دافيد مثل معاهدة الدفاع المشترك واجتماعات مكاتب مقاطعة اسرائيل.
والذي حصل بعد عدول دول قمة بغداد عن مقاطعة مصر، وفي ظل تهاوي حتى ممانعات الدول “الثورية”، فإن كل الدول العربية ارتضت بالعمل المشترك تحت مظلة الجامعة بعد عودتها للقاهرة في اواخر الثمانينيات لكن بممانعة صامتة ضمنية لا تتجاوز سقف كامب دافيد عمليا أو تتصادم معها وليس عملا مشتركا، تبعا على الاقل للأطر المناسبة لتثبيت الصراع، وهذا ما أدى لاحقا الى المزيد من الخروقات في التطبيع القانوني الرسمي والتطبيع السري والعلني غير القانوني.
صحيفة اخبار الخليج
18 يناير 2009