هنا يمكننا أن نعطي أكثر من مثال على ذلك ، فقد قدرت الحكومة تكلفة إنتاج البرميل في الموازنتين الأخيرتين على أنها 3 دولارات (ثلاثة دولارات للبرميل) ولكن اللجنة وبعد صراع طويل ومرير مع طاقم التفاوض السابق بوزارة المالية، وبعد تواصل قمنا به مع بعض أعضاء مجلس الأمة الكويتي والاطلاع على بعض المعلومات ذات العلاقة بتكرير النفط ومبيعاته في كل من المملكة العربية السعودية والإمارات، استطعنا بعدها أن نفرض على الحكومة التكلفة الحقيقية وهي 1,97دولار فقط، والفرق هنا كبير كما تلاحظون ويقدر بمئات الملايين بحسب حجم المبيعات اليومي والسنوي أيضاً، وتلك قضية يمكن الرجوع اليها والتحقق منها من خلال أرشيف اللجنة ووسائل الإعلام التي تفاعلت معها بشكل كبير وأسهمت هي والرأي العام في تعضيد موقفنا المبدئي بشكل كبير، حيث كنا في حال تواصل وتواجد دائم معهم كما ذكرت سلفا، على اعتبار أن ملف الموازنة العامة هو ملف كل الناس وفيه كل آمالهم لعامين قادمين لا فرق في ذلك بين غنيهم أوفقيرهم. وبعد استكمال التغيير الوزاري وخلال الجلسة التالية مباشرة مع وزير المالية الجديد وهو الوزير الحالي، فان نفس الطاقم الذي كان يبرر الأرقام والمعلومات التي رفضتها اللجنة آنذاك، جاء مع الوزير الجديد ليوافق دون عناء هذه المرة على رأي لجنة الشؤون المالية والاقتصادية، بل ويبرر ما اتفق الوزير الجديد بشأنه مع أعضاء اللجنة، الذي هو بالمناسبة رأي الإدارة التنفيذية في بابكو فيما يتعلق بتقدير تكلفة وإنتاج برميل النفط وحجم المبيعات والإيرادات النفطية.
وما استعرضناه من أرقام وما أجريناه من محاورة صريحة لمشروع الموازنة العامة للدولة، والتي نرى ضرورة إجراء مزيد من الدراسات المستفيضة حولها، فقد كانت تلك رؤية أو مجموعة آراء سريعة تطمح لأن تكون متكاملة كان يجب علينا استعراضها والإفصاح عنها، نظرا لأنها تستند على تجربة معايشة عملية لملف الموازنة العامة، نستطيع أن نفهم من خلالها كيفية تعاطي الحكومة مع لجنة الشؤون المالية والاقتصادية في الفصل التشريعي الأول في ملف الموازنة العامة ، والذي أرى أنه مازال مستمرا بذات الكيفية والأساليب في الكثير من وجوهه حتى اليوم من خلال متابعاتنا لهذا الملف، وهو أهم ملف كما ذكرت يمكن أن يناقشه أي برلمان في العالم، ويمكننا من خلاله فهم أساليب العمل التي تتبعها الحكومة في التعاطي مع بقية الملفات الأساسية والتي لا تقل أهمية بأية حال عن الموازنة العامة للدولة.
نخلص من كل ذلك إلى أن دراسة الموازنة العامة للدولة لا يجب أن يجر فيها مجلس النواب ومن بعده المجتمع بأسره لنقاشات تحصر في مجرد إقرار أرقام صماء، كعدم إقرار علاوة الغلاء أو إقرار موازنة المدينة الشمالية على سبيل المثال من عدمه، أو زيادة ميزانية مشروع البيوت الآيلة للسقوط الذي استهلك كثيرا، أو زيادة إيرادات شركة ممتلكات او غيرها، كما يحصل الآن من حوارات مضيَعة للوقت في أغلبها، حتى لا نعفي الحكومة من مسؤولياتها في الرضوخ لمناقشة أكثر عمقا تصب في فهم وتحديد توجهات الدولة الحقيقية على مستوى التعليم والإسكان والصحة ومبررات النفقات الأمنية المتضخمة، وسياسات التوظيف، وعدالة توزيع الثروة، وملف الأراضي وأملاك الدولة ومعدلات التضخم، والتعامل مع عجز الموازنة المتوقع على مدى العامين القامين، كما فعلت المملكة العربية السعودية مؤخرا على لسان وزير ماليتها، ووضع سياسات فاعلة لتنويع مصادر الدخل التي نسمع حولها طحنا ولا نرى طحينا، كذلك يجب أن تنصب مناقشة ومواجهة و توجيه سياسات الدولة لما هو أشمل من ذلك بكثير ودون اجتزاء، حتى يكون إقرار الموازنة العامة هو عبارة عن إقرار لخطة الدولة التنموية الشاملة فيما يتعلق بقضايا أساسية واسترتيجية باتت تطرح نفسها بإلحاح، وتوجه الدولة بالاتفاق مع المجلس الوطني من خلال ذلك لتحسين الأوضاع المعيشية والاقتصادية للمواطنين، ومعالجة بقية الأوضاع الرديفة للأوضاع الاقتصادية والمعيشية كانقطاعات الكهرباء المزمنة، وكذلك رؤية الدولة في قدرة الاقتصاد الوطني على توفير فرص عمل متزايدة للأعداد الضخمة المنتظرة من الخريجين القادمين لسوق العمل، والزيادة المطردة في السكان، وكذلك مراجعة وتمحيص توجهات الدولة الاقتصادية لتحفيز الاقتصاد، وهنا مثلا لا يكفي أن تقدم الدولة رؤيتها الاقتصادية الاستراتيجية حتى 2030 والتي طرحت منذ أقل من شهرين، ليتضح بعدها بأسابيع قليلة، وذلك من خلال تصريحات المسؤلين المتكررة حول ضرورة إعادة دراستها مجددا، وضرورة التأكد من أنها – أي الرؤية الاقتصادية – ستكون قادرة على التفعيل على الأرض.
صحيفة الايام
18 ديسمبر 2009