إذا كان علينا أن نستذكر بلا انقطاع المسوغات التي وضعت مشروع إصلاح وتطوير التعليم في البحرين كأحد أكبر المشروعات الإستراتيجية التي لا يمكن الجدال على أهميتها، يصبح من باب الجسارة الباهظة الثمن أن نجعل هذا المشروع أول ضحايا تقليص الموازنة العامة للدولة بذريعة إعادة الحسابات المالية في ضوء انخفاض الإيرادات النفطية، وكأن كل ما طرح في شأن ضرورات المشروع المذكور والالتزام به ووضعه في سلم الأولويات لا قيمة لها.
يعلم الجميع بأنه لأيام خلت اقتحم مسئولون ومعنيون ومختصون بشؤون التعليم والاقتصاد والتنمية والمجتمع غمار قضية التعليم في البحرين، ويبدو أنهم قد بددوا طاقتهم في إثبات البديهيات ذات الصلة بواقع التعليم ومستوى مخرجاته وسبل النهوض به، ونذكر بأنه قيل في هذا الخصوص الشيء الكثير، ويكاد معظم ما قيل ونشر يجمع على أن التعليم طيلة السنوات الطويلة الماضية لم يكن في مستوى الطموحات والتطلعات وواقعه أصبح مستعصياً ومشكلات التعليم صارت عبئاً ثقيلاً ثقيلاً .
حقاً لم يكن في الحسبان بعد كل الذي قيل بشأن وضع التعليم، وبشأن مشروع إصلاحه وتطويره ،أن تفضي بنا مجريات الأمور ذات الصلة بالأوضاع الاقتصادية الحالية وما فرضته من ترشيد وضبط في النفقات والموازنات والمشاريع والبرامج إلى هذه النقطة المرّة التي بات يعكسها شح الموارد المالية التي خصصت لوزارة التربية والتعليم، فالمنشور في هذا الصدد حتى الآن يبين أن الوزارة طلبت موازنة قدرها 67.6 مليون دينار لمشاريع وبرامج عام 2009 وخصص لها 7.3 مليون فقط ، وطلبت 81.3 مليون لعام 2010 ، واعتمد لها 6.3 مليون.!! وهذه أرقام إن صحت فإنها تؤكد بأننا لم نضع حتى الآن مشروع إصلاح وتطوير التعليم في سلم الأولويات الواجبة ، وأنه ليس هناك اهتمام بحجم الآمال التي كانت معقودة على هذا المشروع ، الذي أصبح واضحاً وضوحاً يعمي الأبصار بأنه لن يأخذ مداه المستهدف في إحداث تغييرات نوعية وجذرية في التعليم، وهذا يعني أننا سنبقى نمارس مجرد عمليات ترميم في مسيرة تطوير التعليم الذي هو العماد الأساس لكل عمليات واستراتيجيات التنمية ، وحتى تكتمل الصورة في أذهان من يعنيهم الأمر دعونا نتوقف عند جزء بسيط مما ذكر في مشروع إصلاح التعليم ، ويكفي أن نحصر ذلك في حدود ذلك الكلام الكبير الذي قيل في شأن الرؤية الاقتصادية للبحرين ، فما ذكر في هذا الإطار عن إصلاح التعليم يشكل وثيقة تستحق الانتباه والتأمل من سائر الوجوه.
أن مشروع إصلاح التعليم من منظور مجلس التنمية الاقتصادية الذي وضع الرؤية الاقتصادية حتى عام 2030 التي تبنتها الحكومة، هو مشروع وطني يرمي إلى تغيير واقع التعليم والتدريب ضمن تلك الرؤية، وأن قضية التعليم هو قضية مجتمع يجب أن يتحرك الجميع من أجلها وبسرعة في سبيل بناء أجيال قادرة على تحمل مسؤوليات المستقبل ، وهذه الرؤية ترى في التعليم ما يلي :
– أنه يتيح للمواطن القدرة على تحقيق أقصى إمكانياته في الاقتصاد والحكومة والمجتمع .
– أنه يشكل ويطور الأجيال القادمة من القادة الذين تحتاجهم المملكة .
– أنه يعطي البحرينيين المهارات والمعرفة والقيم التي يحتاجون إليها لكي يصبحوا الخيار الأمثل لشغل الوظائف ذات القيمة المضافة العالية .
– أنه يقضي على الخلل في سوق العمل ويعزز من قدرات البحرينيين على تلبية متطلبات السوق.
– أنه يخدم مسيرة التنمية الاقتصادية والاجتماعية .
وإلى جانب ذلك، فإن الرؤية الاقتصادية في سياق تأكيدها على أهمية التعليم في تحويل رؤية البحرين الاقتصادية إلى حقيقة واقعة، تدعو إلى وجوب الالتزام بمتطلبات واشتراطات الجودة كونها السبيل للحصول على منظومة تعليمية تفرز في مختلف المراحل خريجين مؤهلين لمواكبة متغيرات العلوم والتقنية المتلاحقة على المستوى العالمي، منظومة تدرك بأنه إذا لم يكن التعليم صنواً للجودة فخير له ألا يكون ، وإذا كان على المعلم والطالب أن يتقاسما الجهل فلا موجب لتشييد المدارس، منظومة تدرك بأنه وهم خطير اذا اعتبرنا بأن المباني والمرافق والتجهيزات هي فقط المعبرة عن تطور التعليم، وننسى بأن المعّول على ما يدرس في المدارس ، وعلى كفاءة ومستويات أداء مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، وكفاءة المعلمين باعتبارهم يشكلون أهم الموارد التعليمية من خلال تطوير معايير اختيارهم وتدريبهم ورفع كفاءة أدائهم وعدم اعتبارهم موظفين بل أصحاب مهنة ورسالة يحظون بالمكانة اللائقة في المجتمع التي تجعل مهنة التدريس جاذبة .
ذلك بالنص ما ورد فيما يخص تحديداً مشروع إصلاح التعليم في ثنايا الرؤية الاقتصادية المستقبلية للبحرين، وفي هذا الصدد بشرنا بإطلاق أربع مبادرات أو مشاريع هامة كمرحلة أولى في هذا المشروع أعلن بأن من شأنها تغيير واقع التعليم في البحرين، ووعٌدنا بأن ترى هذه المبادرات النور في زمن قياسي بالاستعانة بأفضل بيوت الخبرة في العالم ليكون الاهتمام منصباً على التعليم أولاً ، والتعليم ثانياً ، والتعليم ثالثاً .. !!
وبالفعل شهد شهر نوفمبر الماضي الإعلان عن تنفيذ ثلاث من تلك المبادرات تمثلت في افتتاح كلية المعلمين بجامعة البحرين، وإطلاق برنامج تحسين المدارس، وافتتاح كلية بوليتكنيك، فيما شهد أواخر ديسمبر الماضي افتتاح هيئة ضمان الجودة التي اعتبرت مكوناً أساسياً في برنامج الإصلاح وتشكل ضمانة أكيدة لتقييم ومتابعة تطوير النظامين التعليمي والتدريبي في البلاد ، والمرجو الآن ألا تتعثر هذه المشاريع الوليدة التي اعتبرت ضمن محاور ومرتكزات المشروع الإصلاحي للتعليم.
نعود إلى ما قيل في المشروع ، ونحسب أنه بمقدورنا أن نرصد ما قيل فيه وما نشر عنه وهو كثير ، ولكن وبحكم المساحة ارتأينا أن نكتفي بربط سمو ولي العهد رئيس مجلس التنمية الاقتصادية تحقيق الرؤية الاقتصادية للبحرين بنظام تعليمي يسلح أجيال المستقبل بالمهارات المطلوبة وقد كان ربطاً له دلالة بأنه لن يكون بالمقدور تطبيق رؤية مملكة البحرين الاقتصادية إلى حقيقة ما لم نستطع بناء هذا النظام.
إذا كان مشروع إصلاح وتطوير التعليم بتلك الأهمية الإستراتيجية فهل ينبغـي أن يكــون آخـر مـــا نشملــه بعنايتنــــا ونجعلــه يدفع ثمن تقليص الميزانيــة !!؟.
الأيام 16 يناير 2009