موجبات التأصيل تقتضي منا قبل الشروع في سبر أغوار الموضوع الذي نحن بصدده، العودة قليلاً إلى الوراء للوقوف على خلفية تعبير ‘الطابور’ الذي دخل علم السياسة كمفردة اصطلاحية جديدة تضج بالمعاني والإسقاطات والإيحاءات ذات المدلولات العميقة المعبرة عن وقائع وظواهر شكلت منعطفات حادة ومهمة في صياغة وإعادة صياغة التاريخ ومساراته، إن على الصعيد الوطني الخالص أو إلى الصعيد الأممي الشامل.
اقترنت مفردة ‘الطابور’ أو الصف بكلمة الخامس لتدخل الكلمتان القاموس السياسي كتعبير متداول إبان الحرب الأهلية الإسبانية التي نشبت عام 1936 واستمرت ثلاث سنوات بين قوات الجنرال فرانكو والقوات الثائرة ضد حكمه الدكتاتوري. ويقال إن أول من أطلق هذا التعبير هو الجنرال كوبيو كيللانو أحد قادة القوات الثائرة الزاحفة على مدريد قاصداً به بعض مؤيدي الجنرال فرانكو المتواجدين في مدريد والذين كان يُتوقع منهم أن يخرجوا لنصرة فرق فرانكو العسكرية الأربع (أو طوابيره الأربعة) المتوجهة هي الأخرى لاحتلال العاصمة مدريد، حالما تصبح على مقربة دانية منها.
ومنذ ذلك الحين شاع استخدام هذا التعبير للدلالة على الخلايا السرية النائمة التي يزرعها العدو للقيام بأعمال التجسس والتخريب خلف خطوط العدو وإطلاق وترويج الإشاعات وفبركة وتنظيم الحروب النفسية.
واليوم فإن المرء عندما يتفحص ويتفكر في ذلكم الابتكار اللغوي المبدع ويضعه قبالة التَّمثُّل المعاصر لظاهرة الطوابير الخامسة، فإنه بلا أدنى ريب سوف يكتشف مدى تواضع ذلك الابتداع التأملي البارع أمام ‘إبداعات’ وفهلوة وخبث العقل ‘الجهنمي’ لإنسان النصف الثاني من القرن العشرين وما يتلوه.
لقد طور هذا الإنسان قدراته وأدواته الابستيمولوجية، أي طاقاته العقلية ومخيلته الفكرية وأنساقه المعرفية. هذا مما لاشك فيه. ومثلما جيَّر تحولاته وإنجازاته النوعية هذه لصالح خير الإنسان نفسه، على أصعدة الاكتشافات والتطبيقات العلمية والتقنية، فإنه بقدر أكبر، عمل بدأب على تسخير هذه المنجزات في الاتجاه الآخر المعاكس، أي في اتجاه نزعة الشر الدسائسية المحقونة بشحنات الجشع عالية التوتر.
وبذا لم يعد مفهوم ‘الطابور الخامس’ الذي أنشأته أحداث وموازين قوى اجتماعية وعقلية إنسان النصف الثاني من القرن العشرين، قصراً على تلك ‘الفيالق’ السرية والنائمة التي تُزرع خلف خطوط العدو وفي عمق مناطق بسط سيادته، وإنما تجاوزت تطبيقاته وتمظهراته كافة حدود ذلكم المفهوم ‘الضيق’.
بهذا المعنى نستطيع الزعم أن خريطة الحالات التطبيقية لمفهوم الطابور الخامس أصبحت متشعبة المسالك والدروب، وقائمتها تطول عقداً بعد عقد. وما سنتلوه من أمثلة ليس سوى عينة مصطفاة من تلك الخريطة التي تشبه الشجرة الممتدة والمتفرعة الجذور والعروق التي تداوم الرؤوس الحامية والكالحة السواد على سقايتها بكل ما تفيض به قريحتها من الدس والفبركة لتحقيق المآرب والغايات التي يصعب التعرف على مدبريها الأشباح المتوارين بعيداً خلف الستار:
شركات العلاقات العامة دولية النشاط المتخصصة في تقديم المشورة والدعم اللوجستي العقدي (Contractual) المباشر.
شركات ومكاتب تمثيلية تعمل في ما وراء البحار كواجهات مال وأعمال.
إصدارات صقيلة وأنيقة تستخدم كواجهات ثقافية وبحثية وفكرية وإعلامية وترفيهية.
صناعة ‘ممثليات’ محلية من بين الأوساط النخبوية (تكنوقراطية في الغالب الأعم) وتوظيفها، من خلال واجهات خيرية أو ثقافية أو إدارية معاصرة، في تحقيق غايات (بعيدة المدى في الغالب).
وعلى الصعيد التطبيقي يمكن الاستدلال على هذه الظاهرة، ظاهرة ‘التنويع’ (Diversification) في تجسيد فكرة الطابور الخامس على أرض الواقع من الأمثلة التالية:
الشركات والمؤسسات الوسيطة التي لعبت دوراً محورياً في الانهيارات المالية التي تعرضت لها الأسواق العالمية مؤخراً من خلال دورها في تسويق الوهم والأوراق الصفراء ودفعها بالشائعات للأعلى والنفخ في فقاعتها.
شركات العلاقات العامة التي دعمت الرئيس الجورجي ساكشفيلي منذ نوفمبر عام 2007 حين تعاقدت معها جورجيا بمبالغ كبيرة، والتي اشتهرت بتلفيقها لكذبة سقوط مدينة ‘جوري’ بيد القوات الروسية للتحريض على موسكو مع أن القوات الروسية وقت إطلاق الكذبة، لم تبدأ بعد الرد على هجوم القوات الجورجية الوحشي على أوسيتينا الجنوبية فيما كان العالم مركّزاً أنظاره على افتتاح أولمبياد بكين.
الشركات التي عملت في العراق ولدى عدد من الأنظمة العربية ولدى حكومات بعض الدول الفاشلة (Failed States) في آسيا وأمريكا اللاتينية.
الدور الذي يقوم به لوبي الكوبيين المتمركزين في ولاية فلوريدا الأمريكية في التحريض والتشويش على النظام الكوبي منذ الإطاحة بنظام طبقة الفاسدين الأثرياء من ملاك الأراضي برئاسة الرقيب السابق في الجيش الكوبي فولجنسيو باتيستا الذي كان قد وصل إلى الحكم في انقلاب عسكري في عام 1933 أطاح بالرئيس جرماردو ماتشادو، وذلك في الأول من يناير عام 1959 بعد ثورة مسلحة قادها فيدل كاسترو روز.
خلاصة القول إن العلاقات الدولية قد وصلت إلى ذرى عالية جداً من التطور، تطورت خلالها، بلا أدنى شك، أدوات ممارستها، في العلن كما في الخفاء.
صحيفة الوطن
17 يناير 2009