المنشور

من إبداعات الرأسمالية في‮ ‬مجال السياسة‮.. ‬الطوابير الموازية

موجبات التأصيل تقتضي‮ ‬منا قبل الشروع في‮ ‬سبر أغوار الموضوع الذي‮ ‬نحن بصدده،‮ ‬العودة قليلاً‮ ‬إلى الوراء للوقوف على خلفية تعبير‮ ‘‬الطابور‮’ ‬الذي‮ ‬دخل علم السياسة كمفردة اصطلاحية جديدة تضج بالمعاني‮ ‬والإسقاطات والإيحاءات ذات المدلولات العميقة المعبرة عن وقائع وظواهر شكلت منعطفات حادة ومهمة في‮ ‬صياغة وإعادة صياغة التاريخ ومساراته،‮ ‬إن على الصعيد الوطني‮ ‬الخالص أو إلى الصعيد الأممي‮ ‬الشامل‮.‬
اقترنت مفردة‮ ‘‬الطابور‮’ ‬أو الصف بكلمة الخامس لتدخل الكلمتان القاموس السياسي‮ ‬كتعبير متداول إبان الحرب الأهلية الإسبانية التي‮ ‬نشبت  عام 1936 واستمرت ثلاث سنوات بين قوات الجنرال فرانكو والقوات الثائرة ضد حكمه الدكتاتوري‮. ‬ويقال إن أول من أطلق هذا التعبير هو الجنرال كوبيو كيللانو أحد قادة القوات الثائرة الزاحفة على مدريد قاصداً‮ ‬به بعض مؤيدي‮ ‬الجنرال فرانكو المتواجدين في‮ ‬مدريد والذين كان‮ ‬يُتوقع منهم أن‮ ‬يخرجوا لنصرة فرق فرانكو العسكرية الأربع‮ (‬أو طوابيره الأربعة‮) ‬المتوجهة هي‮ ‬الأخرى لاحتلال العاصمة مدريد،‮ ‬حالما تصبح على مقربة دانية منها‮.‬
ومنذ ذلك الحين شاع استخدام هذا التعبير للدلالة على الخلايا السرية النائمة التي‮ ‬يزرعها العدو للقيام بأعمال التجسس والتخريب خلف خطوط العدو وإطلاق وترويج الإشاعات وفبركة وتنظيم الحروب النفسية‮.‬
واليوم فإن المرء عندما‮ ‬يتفحص ويتفكر في‮ ‬ذلكم الابتكار اللغوي‮ ‬المبدع ويضعه قبالة التَّمثُّل المعاصر لظاهرة الطوابير الخامسة،‮ ‬فإنه بلا أدنى ريب سوف‮ ‬يكتشف مدى تواضع ذلك الابتداع التأملي‮ ‬البارع أمام‮ ‘‬إبداعات‮’ ‬وفهلوة وخبث العقل‮ ‘‬الجهنمي‮’ ‬لإنسان النصف الثاني‮ ‬من القرن العشرين وما‮ ‬يتلوه‮.‬
لقد طور هذا الإنسان قدراته وأدواته الابستيمولوجية،‮ ‬أي‮ ‬طاقاته العقلية ومخيلته الفكرية وأنساقه المعرفية‮. ‬هذا مما لاشك فيه‮. ‬ومثلما جيَّر تحولاته وإنجازاته النوعية هذه لصالح خير الإنسان نفسه،‮ ‬على أصعدة الاكتشافات والتطبيقات العلمية والتقنية،‮ ‬فإنه بقدر أكبر،‮ ‬عمل بدأب على تسخير هذه المنجزات في‮ ‬الاتجاه الآخر المعاكس،‮ ‬أي‮ ‬في‮ ‬اتجاه نزعة الشر الدسائسية المحقونة بشحنات الجشع عالية التوتر‮.‬
وبذا لم‮ ‬يعد مفهوم‮ ‘‬الطابور الخامس‮’ ‬الذي‮ ‬أنشأته أحداث وموازين قوى اجتماعية وعقلية إنسان النصف الثاني‮ ‬من القرن العشرين،‮ ‬قصراً‮ ‬على تلك‮ ‘‬الفيالق‮’ ‬السرية والنائمة التي‮ ‬تُزرع خلف خطوط العدو وفي‮ ‬عمق مناطق بسط سيادته،‮ ‬وإنما تجاوزت تطبيقاته وتمظهراته كافة حدود ذلكم المفهوم‮ ‘‬الضيق‮’.‬
بهذا المعنى نستطيع الزعم أن خريطة الحالات التطبيقية لمفهوم الطابور الخامس أصبحت متشعبة المسالك والدروب،‮ ‬وقائمتها تطول عقداً‮ ‬بعد عقد‮. ‬وما سنتلوه من أمثلة ليس سوى عينة مصطفاة من تلك الخريطة التي‮ ‬تشبه الشجرة الممتدة والمتفرعة الجذور والعروق التي‮ ‬تداوم الرؤوس الحامية والكالحة السواد على سقايتها بكل ما تفيض به قريحتها من الدس والفبركة لتحقيق المآرب والغايات التي‮ ‬يصعب التعرف على مدبريها الأشباح المتوارين بعيداً‮ ‬خلف الستار‮:‬
‮ ‬شركات العلاقات العامة دولية النشاط المتخصصة في‮ ‬تقديم المشورة والدعم اللوجستي‮ ‬العقدي‮ ‬‭(‬Contractual‭)‬‮ ‬المباشر‮.‬
‮ ‬شركات ومكاتب تمثيلية تعمل في‮ ‬ما وراء البحار كواجهات مال وأعمال‮.‬
‬إصدارات صقيلة وأنيقة تستخدم كواجهات ثقافية وبحثية وفكرية وإعلامية وترفيهية‮.‬
‬صناعة‮ ‘‬ممثليات‮’ ‬محلية من بين الأوساط النخبوية‮ (‬تكنوقراطية في‮ ‬الغالب الأعم‮) ‬وتوظيفها،‮ ‬من خلال واجهات خيرية أو ثقافية أو إدارية معاصرة،‮ ‬في‮ ‬تحقيق‮ ‬غايات‮ (‬بعيدة المدى في‮ ‬الغالب‮).‬
وعلى الصعيد التطبيقي‮ ‬يمكن الاستدلال على هذه الظاهرة،‮ ‬ظاهرة‮ ‘‬التنويع‮’ ‬‭(‬Diversification‭)‬‮ ‬في‮ ‬تجسيد فكرة الطابور الخامس على أرض الواقع من الأمثلة التالية‮:‬
‬الشركات والمؤسسات الوسيطة التي‮ ‬لعبت دوراً‮ ‬محورياً‮ ‬في‮ ‬الانهيارات المالية التي‮ ‬تعرضت لها الأسواق العالمية مؤخراً‮ ‬من خلال دورها في‮ ‬تسويق الوهم والأوراق الصفراء ودفعها بالشائعات للأعلى والنفخ في‮ ‬فقاعتها‮.‬
‬شركات العلاقات العامة التي‮ ‬دعمت الرئيس الجورجي‮ ‬ساكشفيلي‮ ‬منذ نوفمبر عام‮ ‬2007‮ ‬حين تعاقدت معها جورجيا بمبالغ‮ ‬كبيرة،‮ ‬والتي‮ ‬اشتهرت بتلفيقها لكذبة سقوط مدينة‮ ‘‬جوري‮’ ‬بيد القوات الروسية للتحريض على موسكو مع أن القوات الروسية وقت إطلاق الكذبة،‮ ‬لم تبدأ بعد الرد على هجوم القوات الجورجية الوحشي‮ ‬على أوسيتينا الجنوبية فيما كان العالم مركّزاً‮ ‬أنظاره على افتتاح أولمبياد بكين‮.‬
‮ ‬الشركات التي‮ ‬عملت في‮ ‬العراق ولدى عدد من الأنظمة العربية ولدى حكومات بعض الدول الفاشلة‮ ‬‭(‬Failed States‭)‬‮ ‬في‮ ‬آسيا وأمريكا اللاتينية‮.‬
‬الدور الذي‮ ‬يقوم به لوبي‮ ‬الكوبيين المتمركزين في‮ ‬ولاية فلوريدا الأمريكية في‮ ‬التحريض والتشويش على النظام الكوبي‮ ‬منذ الإطاحة بنظام طبقة الفاسدين الأثرياء من ملاك الأراضي‮ ‬برئاسة الرقيب السابق في‮ ‬الجيش الكوبي‮ ‬فولجنسيو باتيستا الذي‮ ‬كان قد وصل إلى الحكم في‮ ‬انقلاب عسكري‮ ‬في‮ ‬عام‮ ‬1933‮ ‬أطاح بالرئيس جرماردو ماتشادو،‮ ‬وذلك في‮ ‬الأول من‮ ‬يناير عام‮ ‬1959‮ ‬بعد ثورة مسلحة قادها فيدل كاسترو روز‮.‬
خلاصة القول إن العلاقات الدولية قد وصلت إلى ذرى عالية جداً‮ ‬من التطور،‮ ‬تطورت خلالها،‮ ‬بلا أدنى شك،‮ ‬أدوات ممارستها،‮ ‬في‮ ‬العلن كما في‮ ‬الخفاء‮.‬

صحيفة الوطن
17 يناير 2009