خلصنا في مقالنا تحت عنوان “غزة والأوراق المغيبة” الى أن غياب الدور الفاعل للمثقفين والساسة يشكل تغييبا لإحدى أوراق الضغط المهمة في المعركة السياسية التي يفترض ان يخوضها العرب حاليا ضد المذابح البشعة المهولة والمتواصلة على الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة، هذا في الوقت الذي توظف فيه شرائح عديدة من المثقفين السياسيين في العالم، على اختلاف مشاربهم ومنابتهم الفكرية والدينية، السلاح الفكري والسياسي ليس للجم العدوان الإسرائيلي والمطالبة بوقفه وانسحاب مصّاصي دماء الأطفال من غزة، بل بالربط التحليلي الخلاق من واقع هذا العدوان وتأصيل مسبباته الأصلية المتمثلة في طبيعة العقيدة الصهيونية ومن ثم البرهنة مجددا على تهافت هذه الأيديولوجية العنصرية كما نعتها بذلك عن حق ضمير المجتمع الدولي في الأمم المتحدة في قرارها التاريخي الصادر عام 1975، وذلك قبل ان يتضاءل دور ونفوذ الكتل الخمس (الكتلة العربية، والكتلة الإسلامية، والكتلة الإفريقية، وكتلة عدم الانحياز، والكتلة الاشتراكية) في الأمم المتحدة، وعلى الأخص بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانتهاء الحرب الباردة، حيث نجحت الولايات المتحدة وإسرائيل بعدئذ ان تصولا وتجولا وحدهما في ساحة الأمم المتحدة ومعهما حلفاؤهما الغربيون لاحباك مؤامرة اسقاط القرار وهو ما تحقق لهما عام .1992
فكأنما الضمير العالمي يمكن تزويره بقرار دولي لشرعنة العار والقذارة الفكرية وما تنبته من موبقات لا تمت بصلة للحضارة والقيم السامية الإنسانية وآخرها مذابح غزة، وبالتالي فهؤلاء المثقفون والمفكرون العالميون لم تشغلهم التفاصيل والمسائل الجانبية مهما كانت المسئولية الملقاة على عاتق أي طرف عربي أو العرب أجمعين. والأهم من ذلك مهما كانت المسئولية الملقاة على أي طرف فلسطيني أو الفلسطينيين أجمعين، عن التذكير بالعامل الرئيسي والجوهري للصراع برمته والمتمثل بالأيديولوجية الصهيونية التي اغتصبت فلسطين بموجبها العربية عام 1948 وفي الاحتلال الإسرائيلي الذي استكمل احتلال بقية أراضيها: الضفة الغربية وقطاع غزة عام .1967
فلولا هذا الاغتصاب لما مر الشعب الفلسطيني بكل هذه الأهوال والمآسي على امتداد ستة عقود ونيف، ولولا احتلال ما تبقى من أراضيه عام 1967 لما كانت هذه المحن والمصائب المتوالية التي ما انفك يرزح في ظلها الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، ناهيك بالطبع عن عذابات ومحن الشعب الفلسطيني داخل “أراضي 48” وفي الشتات، دع عنك ما عانته دول المواجهة، مصر وسوريا والأردن ولبنان، من مآس ودفعته من ثمن في الحروب التي شنتها عليها اسرائيل، وحيث لاتزال دولتان أراضيهما محتلة ألا هما سوريا (الجولان) ولبنان (مزارع شبعا).
فأنت لو تتبعت ما نشر من نماذج لما نشر لكبار المفكرين والمثقفين العالميين المناصرين للقضية الفلسطينية حول مواقفهم من مذابح غزة الراهنة لوجدت في تحليلاتهم ربطا محكما منطقيا لأصل المشكلة والمأساة الراهنة باعتبارها متولدة من مشكلة أكبر هي العقيدة الصهيونية والدولة العبرية التي انشئت بالقوة على أسس أفكارها.
وعلى النقيض من ذلك، فأنت إذا ما قلبت صفحات صحفنا العربية الورقية أو في الانترنت، فضلا عما اذا استمعت الى ما يدلي به هؤلاء المثقفون و”المفكرون” العرب لوجدت أطروحات غالبيتهم حول الموقف مما يجري في غزة من مذابح وأهوال بحق أهلها تتوزع على واحد من هذه الاتجاهات الثلاثة:
الاتجاه الأول: يكرس قلمه بالكامل للهجوم العنيف على “حماس” وكأنها السبب الأساسي والوحيد في كل ما حدث ويحدث من مجازر وفظائع بحق أهل غزة بسبب رفضها تمديد التهدئة مع إسرائيل وإطلاق صواريخها على المستوطنات والبلدات “الإسرائيلية” في “أراضي 48” مع خلو هذه التحليلات من أي إدانة لإسرائيل لتلك المذابح.
الاتجاه الثاني: لا يكتفي بالدفاع عن “حماس” بالمطلق وبلا حدود، بل يسايرها في إعادة رفع شعاراتها غير الواقعية في الظروف التاريخية الراهنة وتخوين وأمركة وصهينة كل من يختلف بهذا القدر أو ذاك مع مواقفها وتكتيكاتها السياسية ولو بالحدود الدنيا.
الاتجاه الثالث: يركز على كيفية إدارة الصراع وانقاذ شعب غزة من المحرقة الحالية والتعويل على مختلف الحلول التهادنية الممكنة لإجبار إسرائيل على وقف اطلاق النار ولو بشروطها من دون ربط القضية بمسبباتها وجوهرها الأصلي المتمثل في الاحتلال الإسرائيلي، وهذا الاتجاه هو الذي يطغى على المواقف الرسمية العربية.
وهكذا يجرى، بقصد أو من دون قصد، تغييب جوهر الصراع في هذه القضية الفرعية (مذابح غزة) والمتمثل أساسا في الاحتلال الإسرائيلي للقطاع كجزء من احتلال أراضي 1967، فلولا استمرار هذا الاحتلال لما انطلقت صواريخ القسام على المستوطنات والبلدات الإسرائيلية.
فهل يجوز ان تطغى صرخات إدانة حماس كمنظمة “إرهابية” أو “متطرفة” في ظل عمل ارهابي أكبر يتمثل في مذابح الاحتلال بغزة؟ بطبيعة الحال لا أحد ينكر ان ثمة أخطاء سياسية لحماس قبل العدوان وأثناء إدارة المعركة ضد العدوان لكن ليس هذا هو الوقت المناسب للعن وصب جام غضبنا على “حماس” بشكل متواصل والتنديد بها بأعلى من أصوات أنياب صواريخ الوحش الإسرائيلي المستمر في غرس أنيابه بتلذذ بلا هوادة وبلا انقطاع في لحوم أطفال غزة ونسائها ورجالها، وبخاصة حينما لا يقترن هذا اللعن والتنديد بأي فضح أو إدانة للأفعال الوحشية التي يرتكبها العدوان اللهم على نحو عابر.
ثم فلننظر الى هذه الكوكبة العريضة ليس من المفكرين والمثقفين العالميين العلمانيين فحسب، بل من الساسة والنقابيين ورموز المجتمع المدني واليسار العالمي، ومختلف رجال الدين غير المسلمين، وبضمنهم يهود، ومشاهير المحللين الصحفيين داخل إسرائيل نفسها.
فهل هؤلاء جميعا عندما يركزون في الوقت الراهن على جرائم العدوان ويطالبون بردع السفاك لا يفقهون شيئاً عن “حماس” كحركة أصولية “متطرفة” أم يعون في نفس الوقت بأنها ليست سوى ثمار وجود الاحتلال الإرهابي المديد قبل كل شيء؟ فلولاه أو لولا تطرفه لما وجدت “حماس” أصلا، أو لما كانت بهذا “التشدد”؟ أم يا ترى أن يسارنا العربي وفطاحل من يحلو أن يسموا أنفسهم بـ “الليبراليين” و”العلمانيين” هم الأكثر يسارية وعلمانية وتحضرا من كل من عداهم في العالم؟
صحيفة اخبار الخليج
17 يناير 2009