عندما ذهبتْ لتُحيي حفلتها في باريس سألها مدير مسرح الاوليمبيا الشهير الذي أقامت فيه الحفل، عن عدد الأغاني التي ستقدمها في المساء، فأجابت: أغنيتين أو ثلاث.. ولأنه فرنسي اعتاد أغنيات المطربين الفرنسيين الغربيين القصيرة، فكر مدير المسرح بينه وبين نفسه: إذا كانت مدة الأغنية ثلاث دقائق أو أربع، فان مجموع الأغنيات الثلاث التي وعدت بها أم كلثوم لن تتجاوز تسع أو عشر دقائق. فسألها بشيء من الحرج: أليس هذا قليلاً لحفلة بِيعت كل تذاكرها، فردت عليه: مبتسمةً: لا تقلق، سترى أن كل شيء سيكون على ما يرام. في المساء فقط، أدرك مدير المسرح ما الذي عنته أم كلثوم وهي تطمئنه صباحاً، فقد غنت أربع أغنيات، مدة كل واحدة منها تضاهي الساعة والنصف، وفي النهاية استغرق الحفل نحو ست ساعات، وسط تفاعل مذهل من الجمهور الذي أتاها ليس من باريس وحدها، ولا من بقية المدن الفرنسية وإنما من المدن الأوروبية ومن بلدان المغرب العربي. مثل هذا الكلام تسمعه في تقرير عن حفلة أم كلثوم في باريس يبث في المعرض المهيب الذي يقام في مجمع الشيراتون، باستضافة من مركز الشيخ إبراهيم الخليفة، بعنوان:»أم كلثوم.. الهرم الرابع». معرضٌ جدير بأن يُزار، وبأن يمنحه الزائر ما يستحقه من وقتٍ ليطلع على الأوجه التي يقدمها عن حياة الفنانة الكبيرة، التي ستظل تعد حالة فريدة من نوعها في التاريخ الغنائي والموسيقي العربي. تُذَكر بزمنٍ آخر كانت الأمور فيه تتم بأناةٍ وصبر ودقة وتوخٍ للجودة والأصالة، قبل أن يحل علينا زمن ساد فيه الغث. عبارة بليغة تستوقفك في أحد أركان المعرض جاءت على لسان أم كلثوم نفسها، تقول«أعتقد أن ما يجب أن يُكتب عني بعد موتي هو أنني أرهفتُ ذوق المستمع العربي بحمله على الاستمتاع بموسيقى راقية». هذا ما فعلته حقاً، لقد طورت ذائقة موسيقية لمستمعيها من مختلف الأجيال بموهبتها النادرة التي لا يجود بها الزمن إلا نادراً، وبما اتصفت به من دقة في اختيار النصوص التي تُغنيها، فضلاً عن ذكائها المشهود له في اختيار الملحنيين الموهوبين ليضعوا موسيقى الأغاني، وبذا تركت ثروة خلدها وسيخلدها الزمن، فأصبحت رمزاً لعصرٍ بكامله، شهد تحولات كثيرة، ولكن يمكن لهذا العصر أن يُوصف، في معنى من المعاني، بأنه عصر أم كلثوم. بوسعنا أن نُمسك بمعالم هذا العصر ونحن نتجول في ردهات معرض»الهرم الرابع»، الذي لا يكتفي بتقديم أم كلثوم، الفنانة والإنسانة فحسب، من خلال عرض مقتنيات عائدة لها، وإنما من خلال مجموعة من الصور والمخطوطات والأفلام الوثائقية، ومن تقصٍ لوجوه العصر الذي عاشتهُ، في الفن وفي الحياة، فنستعيد مناخات ذلك الزمن، الذي كان بالفعل زمناً جميلاً. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، فان الإقبال الكبير على الأنشطة المصاحبة لهذا المعرض، يؤكد أن الناس ستظل تعود لأم كلثوم، بوصفها قيمةً فنيةً كبرى ستعيش في الزمن القادم، كما عاشت في زمنها وكما تعيش اليوم. شكرأ لمركز الشيخ إبراهيم للثقافة والتراث الذي منحنا هذه الفرصة الرائعة لأن نعطي أرواحنا ما هي في أمس الحاجة إليه من فسحة.
صحيفة الايام
17 يناير 2009