المنشور

محمود أمين العالم

رحيل محمود امين العالم خسارة كبيرة للفكر الماركسي ولليسار ولكل الذين يناضلون من اجل حياة تسودها الحرية والتحرر والتقدم والعدالة، فالحديث عن «العالم» يعني الحديث عن رائد من رواد الفكر الماركسي.. يعني الحديث عن مكافح لم يتوقف طيلة حياته عن الدفاع عن فكره ومبادئه وعن مستقبل التقدم البشري، خدم العلم والنقد والثقافة وقضى عمره لازالة الاستغلال والاستعباد والتخلف والقهر دون ان يكون مزدوجاً ولا نخبوياً متعالياً هذا ما قيل عنه وما عرف به.
كانت حياته السياسية والادبية والثقافية مليئة بالمؤلفات والاصدارات والدراسات والمقالات ومن بين ما كتبه: الانسان موقف الوعي والوعي الزائف في الفكر العربي المعاصر، والفكر العربي بين الخصوصية والكونية، الرحلة الى الآخرين، الابداع والدلالة، الثقافة والثورة، تأملات في عالم نجيب محفوظ، من نقد الحاضر الى ابداع المستقبل وغيرها، ولعل ابرز هذه الاصدارات في الوقت الحاضر «من نقد الحاضر الى ابداع المستقبل» الذي بحث فيه مدى تأثير ظاهرة العولمة في نسيج العديد من الاوضاع العربية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومن يرتبط بها من تيارات ومعارك فكرية كالليبرالية والاسلامية والقومية والماركسية وفي هذا الكتاب يتساءل «العالم» عن المستقبل الذي يعني بالنسبة اليه الابداع لا الاستقبال، أو التلقي. ومن جملة ما تطرق اليه ايضا الاسلام السياسي والسلطة ومستقبل الثقافة في مصر وظاهرة العنف والتكفير.
وعلى هذا الصعيد، خاض حوارات ومعارك فكرية كثيرة وكانت قناعته تقول: مهما اختلفت وتنوعت تيارات الاسلام السياسي فإن ما يوحد هذه التيارات جميعاً هو الموقف من السلطة فهي جميعاً تدعو الى السلطة الدينية وألا تكتفي بالقول بتطبيق الشريعة الاسلامية او باستلهامها، بل تدعو دعوة صريحة جهيرة الى اسلمة السلطة واسلمة المجتمع في مختلف ممارساته واساليب حياته بل لعل بعضها يمتد بهذا الى محاولة اسلمة المعرفة والعلوم كذلك.
وفي موضع آخر، في هذه الحوارات الفكرية تقول ايضاً: ان المواقف تختلف في حركة الاسلام السياسي حول منهج تحقيق ذلك فهناك من يذهب الى تكفير السلطة والمجتمع القائمين وضرورة فرض السلطة الاسلامية والمجتمع الاسلامي بالعنف المسلح كما تذهب جماعات التكفير والهجرة والجهاد والجماعات الاسلامية عامة التي خرجت من معطف سيد قطب وهناك من يذهب الى استخدام التقية والموقف المزدوج الذي يسعى الى كسب المواقع والانصار بالدعوة وممالأة السلطان في الظاهرة والاستعداد في السر لسيطرة على السلطة بالعنف المسلح وهناك من يسعون الى التغلغل في المؤسسات الاجتماعية والمؤسسات السلطوية تميهداً لاستيلاء على السلطة بشكل ديمقراطي متدرج او يتحول الى عنف مسلح اذا توافرت الشروط الاجتماعية ولكن الهدف النهائي على اختلاف هذه المناهج والاساليب هو اقامة السلطة الدينية.
وحول المشهد الفكري والثقافي العربي يعتقد «العالم» ان مجتمعاتنا في نهاية القرن العشرين وبداية القرن الحادي والعشرين تسودها ثقافة ثنائية ملتبسة غير متواز نة فضلاً عن هشاشة وسطحية بنيتها المعنوية والمادية على السواء فلا القديم التراثي الذاتي عميق الجذور في تأصيله المعرفي والقيمي والوجداني في ثقافتنا العربية عامة، اللهم إلا في بعض الاجتهادات المستنيرة التجريدية الفكرية والعلمية ذات الطابع النخبوي لبعض القوى الثقافية المعارضة ولا الفاعل الخارجي له اسسه وركائزه الراسخة المستنبتة النابعة في الوقت نفسه من الابداع المجتمعي الذاتي بل يمارس تأثيره السلبي في عرقلة التنمية.
حقاً رحيل «العالم» خسارة للثقافة والعلم والفكر المستنير وللعقل والعقلانية ومع ذلك لم يرحل فهو ترك إرثاً فكرياً وثقافياً اضاف الشيء الكثير للثقافة العربية والانسانية عامة.. إرثاً يضيء باستنارته العقل والابداع والمعرفة.. إرثاً يدرك اهمية التغيير والتجديد والتقدم.

صحيفة الايام
17 يناير 2009