ثمة دروس ودلالات عديدة بعيدة المدى متمخضة عن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، وإذ يصعب تعدادها في هذه العجالة فإن بعضاً من أهم هذه الدروس والدلالات تتصل تحديداً بالهبات الجماهيرية المتعاقبة الكبرى غير المسبوقة التي ظلت تتفجر طوال العدوان في معظم العواصم العربية فضلاً عن العواصم الإسلامية والعالمية، والتي أغلبها كما نعلم جرت في ظل كسر اجباري لحظر السماح بها وفي ظل قيود أمنية مشددة. ولم تخل جميعها من مواجهات مع قوات مكافحة «الشغب« العربية وان الأحرى أن يطلق عليها في هذه الحالة قوات اخماد الفعاليات السلمية الحضارية واستفزاز أفرادها لإثارة حالة من الشغب ومعظم هذه الهبات، إن لم يكن كلها، كما نعلم غلب عليها الطابع العفوي.
هنا ثمة معنيان على درجة من الأهمية في ابعادهما ينبغي أن تستوعبهما جيداً الأنظمة والمعارضات العربية وتستخلص دروسهما:
المعنى الأول: إن الجماهير العربية بتلك الهبات الحاشدة التي انطلقت عفويا، انما تعبر عن مكنون صحة وقوة مشاعرها القومية والانسانية تجاه الجرائم المرتكبة بحق أهلها في غزة، وان لا شيء يقف في وجهها من قيود وإجراءات أمنية مهما كانت مشددة، ومهما كانت مخاطرها، عند تفجير غضبها المكتوم طويلاً ضد السلطات العربية، وهو غضب كما هو معلوم مزدوج، فهو غضب بسبب مصادرة حرياتها العامة ومختلف حقوقها السياسية والدستورية والاقتصادية والاجتماعية مصادرة مزمنة متفاقمة، وهو غضب في ذات الوقت لما تمارسه هذه الأنظمة من خذلان متواصل (أخيراً) بلغ حد التواطؤ عن نصرة الشعب الفلسطيني خلال الاعتداءات الصهيونية الوحشية على هذا الشعب، وقبله الشعب اللبناني والتي ترتكب خلالها هذه السلطات أبشع المذابح وجرائم الإبادة بحق أبناء ذينك الشعبين الأعزلين المدنيين العزل من أي سلاح للمقاومة.
وهي لا تكتفي، الأنظمة، بالتفرج على هذه المذابح كما يفعل بعضها في أحسن الأحوال أو بخذلان هذين الشعبين، كما فعل ويفعل بعضها الآخر، بل بالتواطؤ المكشوف مع المعتدي المحتل كما يفعل بعضها الثالث، وخير شاهد على ذلك ما حدث ويحدث في العدوان الأخير على غزة.
المعنى الثاني: وهو يتصل تحديداً بحال ما بلغته حركات المعارضة العربية من ضعف وهوان، ليس فيما يتعلق بالقوى التي تعيش حالة جزر وانحسار بعدما كانت في حالة مد كاسح إلى ما قبل ربع قرن خلا على الأقل كما هو حال القوى الوطنية والقومية واليسارية، بل حتى القوى الصاعدة الجديدة المتسيدة الساحة السياسية ممثلة في التيار الإسلامي بمختلف ألوان طيفه الفكري والديني والطائفي والمذهبي. ذلك أن كلا هذين التيارين المعارضين، وعلى الأخص الإسلامي المتسيد الساحة، أثبتا بامتياز عجزهما عن استثمار وتحشيد هذه الطاقات الجماهيرية الهائلة الشجاعة والتي عبرت عن نفسها بقوة في انتفاضاتها الأخيرة المتواصلة بالاحتجاج على العدوان الصهيوني على غزة، وعلى خذلان الأنظمة لنصرة شعبهم الشقيق في القطاع.
فالدرس المستفاد هنا إذن من كل تلك الهبات الجماهيرية العربية المليونية الحاشدة الجسور وعلى الأخص في المغرب والأردن احتجاحاً على العدوان في غزة ان علة انكفاء وكمون التحركات الشعبية، سواء من أجل نصرة القضايا القومية أو من أجل انتزاع الحقوق والمكاسب الداخلية فيما يتعلق بالإصلاحات السياسية أو تعميقها، انما تكمن في قوى المعارضة ذاتها لا في الجماهير في حد ذاتها لو وجدت من يقودها على الطريق الصحيح ويعبر عن آلامها وآمالها.
ومن نافلة القول إن تمزق وتفتت قوى المعارضة سواء فيما بينها أم داخل كل تيار وكل حركة، وغياب الرؤية الموضوعية العلمية المشخصة بدقة لواقع وحال الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية في كل قطر واستشراف البرامج العملية الواقعية المرتكزة على فن التكتيكات المناسبة وفق استراتيجية بعيدة المدى.. ان كل ذلك لهو عناوين للأمراض المزمنة التي تشل فاعلية كل حركات المعارضة العربية بلا استثناء.
ولعل واحداً من أبرز معاني ومغزى تلك الهبات الجماهيرية المتفجرة في البلدان العربية والذي ينبغي للمحللين والمفكرين السياسيين العرب دراسته جيداً واستقراء أبعاده يتعلق تحديداً بالحس القومي المدغم ضبابيا بالمشاعر الدينية وحدها. فمع أن ثمة مسيرات ومظاهرات احتجاجية جماهيرية انطلقت في عدد من البلدان الإسلامية، وكان أكبرها في اسطنبول، إلا أن غير خاف على المراقب اللبيب المتتبع جيداً لترمومتر غليان الشارع العربي ان أقواها وأكثرها استمرارية فاعلية وأكثرها في الدلالات السياسية انما تمثلت في المسيرات والمظاهرات الاحتجاجية بالمنطقة العربية وهي التي كانت أعين كل المراقبين والمحللين السياسيين العالميين عليها أكثر من غيرها.
وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن البعد والاحساس القومي مازال قويا وإن ظل كامناً مترسباً في الوجدان الشعبي وأيا تكن الملابسات السياسية التي أدت إلى تزييف أو تغييب هذا الوعي بفعل انكفاء التيار القومي وللأخطاء والانحرافات القاتلة التي ارتكبتها الحركات والأنظمة المرتبطة به. ومن ثم فإن تفجر تلك الاحتجاجات الغاضبة وتركزها في المنطقة العربية بالذات لم يأت مصادفة لولا قوة الاحساس القومي، وبالتالي فلا تستطيع هذه الشعارات والرايات الإسلامية المرفوعة في تلك المظاهرات حجب هذا الاحساس حتى بالرغم مما للقضية الفلسطينية من بعد ديني إسلامي لا جدال فيه.
يبقى أن نشير إلى أن انفجار أقوى وأكبر هذه الاحتجاجات العربية المتواصلة على نحو لافت وغير مسبوق في بلدين عربيين أحدهما في أقصى المغرب العربي (المغرب) والآخر في المشرق وعلى تماس طويل مباشر مع فلسطين (الأردن) والذي يرتبط بمعاهدة تطبيع وسلام مع العدو لهو ظاهرة فريدة نادرة تنطوي هي الأخرى على دلالات كبيرة فائقة الأهمية السياسية، تستحق معها الدراسة المعمقة من قبل المحللين والمفكرين العرب لاستخلاص دروسها وأبعادها المفيدة وعبرها المهمة.
صحيفة اخبار الخليج
14 يناير 2009