برحيل محمود أمين العالم تكون صفحة متألقة من صفحات الوعي العربي التقدمي قد انطوت، رجلٌ قد كرس نفسه طوال نصف قرن للتنوير الفلسفي وللنقد الثقافي، وصل إلى ما يشبه التفرغ الجدي المتواصل لمعالجة كل أشكال الفنون والآداب والأفكار، حفر أولاً في الأدب المصري وأنواعه وقضاياه، باعتباره هو منبته، والنوع الأدبي الذي راح يتطورُ منه ويكتشفُ العالمَ، ووجدَ أن الأدبَ المصري الكلاسيكي وقتذاك، والمتوجه للرومانسية والواقعية، بحاجة إلى دفقات جديدة من للوعي، بحاجة إلى التغلغل في الواقع الحقيقي.
وقد أخذتْ منه هذه المرحلة وقتاً طويلاً، فالأدب المصري وجذوره العربية هائلة، من الصعب الوصول إلى تعميمات فلسفية فيه، خاصة ان محمود أمين العالم لم يؤصل هذه العملية بدرس مطول في نوع أدبي محدد، فيغلب على تفكيره معالجة الجزئيات، مثل أن يعالج أفكار عباس العقاد أو شعر شوقي، وكلٌ منفصلٌ عن الآخر، وفي هذه الأثناء درس الماركسية التي كانت تغمر مصر في سنوات الأربعينيات من القرن الماضي، خاصة في الجانب النظري، متناولاً جزئية مهمة وهي مسائل الضرورة والمصادفة، وهو بحث ظل يرافقه بين كتابات الأدب والاختناق في السجون وبعثرة الصحافة اليومية.
وتشابكت دراسة الأدب ونقده بعملية توظيف تلك الماركسية في التحليل النظري العام، وكان طابع الماركسية العربية ولايزال حتى الآن نقل التعميمات النظرية كما أُنتجت في الاتحاد السوفيتي إلى الواقع العربي، حيث أدت أفكار التعجيل بالتطور الاجتماعي إلى جعل الاشتراكية قابلة التنفيذ في مجتمع إقطاعي من أجل إحداث قفزة تحولية كبرى.
وكان هذا الوعي التعجيلي قد تمظهر لدى محمود العالم بأن يكون أداة تبشير به، نقداً لضعف الأشكال الأدبية المصرية عن اللحاق بفكرة الثورة الاجتماعية، فكان تقييمه لعبدالرحمن الشرقاوي إيجابياً في روايته (الأرض) وسلبياً تجاه أعمال نجيب محفوظ الأولى، بسبب مقاربة الشرقاوي للجمهور الشعبي ونضاله، لكن الانعاكسية المباشرة في أعمال الشرقاوي لم تتركْ لهُ مساحة كبيرة في التطور الإبداعي، وأبدع في مجال آخر هو مجال الأدب والفكر الإسلاميين، وبطبيعة وعي محمود العالم الماركسي – اللينيني لم ترق له تطورات الشرقاوي، في حين ظل نجيب محفوظ ينقدُ الأنظمة الشمولية بأشكال إبداعية مبتكرة باستمرار خاصة في مصر، مما أكسبه تطورات فنية كبيرة، فتأمله محمود أمين العالم نقدياً في كتابه (تأملات في عالم نجيب محفوظ)، الذي ظل بشكل نقد إيجابي جزئي.
وبهذا فإن الوعي الماركسي التقليدي وتلقائية محمود العالم في معالجة القضايا، قد جعلاه يبحث عن المضمون المباشر الإيجابي في الأعمال الأدبية، كشكل آخر من التحريض السياسي، وجزء من ممارسته السياسية المستمرة، ولعل هذه الممارسة السياسية الحزبية قد قولبت العديد من الجوانب الثقافية، ولهذا كنتُ أدهش من أحكامه مثل تقديره ليوسف القعيد أكثر من تقديره لصنع الله إبراهيم، فكانت الكتابات النقدية والهجائية المباشرة للواقع، مفضلة لديه، رغم ان كتابه النقدي عن روايات صنع الله إبراهيم كان من أفضل أعماله النقدية، حيث قاده الاحتكاك بمدارس فرنسا النقدية زمن ابتعاده عن القمع في مصر في السبعينيات، إلى مقاربة عميقة للروايات من الداخل بشكل نقدي كبير.
ولهذا فإن التعميمات الفلسفية المرتكزة على نظرة مؤدلجة تسريعية لتحويل الواقع، كانت لا ترتكز على تحليل ذلك الواقع العربي الإسلامي المنقود، فالممارسة الماركسية العربية في زمنيتها التقليدية النقلية، تغدو مباشرةً، متقطعة، لا تصل لقوانين الواقع وبالتالي لا تصل لقوانين تشكل الأنواع الأدبية والفنية، وهذا ما لا ينتج نظرية أدبية، وهذا ما يدخل في نقد الفلسفة الذي صاغه محمود العالم، فهو كعادته جزئي يذهب لقضايا معينة، أو نحو نقد منهجية فلسفية، لكنه لم يقرأ التاريخ العربي الفلسفي بمجمله، وقد أبدع في بعض المعالجات الفكرية كنقده (لماركوزه وطريقه المسدود)، لكون النقد هنا يتوجه لنقد فيلسوف فوضوي في العالم الغربي الرأسمالي المتطور، لكن لم يعالج مثل هذا تجاه الفلاسفة العرب القدامى خاصة.
وهو حين ينقد الفلاسفة المثاليين المصريين كزكي نجيب محمود فهو يعالج التجريبية المنطقية بشكل نقدي عميق، وهكذا فإن معالجاته الفلسفية الجزئية المتعددة والكثيرة قد جعلته يواجه أشكال الفكر السائدة المستوردة من الغرب باقتدار، لكن ليس فيما يتعلق باستيراد الماركسية، فينقدها بصرامة على مدى عقود – أي تلك الرؤى الليبرالية والدينية والفوضوية عموماً – مبيناً ضعفها عن تحليل الواقع، وهو أمرٌ أثرى الثقافة العربية كثيراً، وقد غلب ذلك حتى على بعض عناوين كتبه فغدت (معارك فكرية) أو سجالات مستمرة ساخنة، أو مشاهد مباشرة من المسرح وتعليقات على الكتب الصادرة حديثاً.
وقد كان فشله في تحديد أساليب الإنتاج العالمية والعربية من الأسباب في تعثره في تحليل الاشتراكية، فكانت الصيغة اللينينية تــُقبل على علاتها، وهذا ما جعله غير متكشف لقضايا المعسكر (الاشتراكي)، وجعله يمدح (الاشتراكية) في مصر ثم يراجع موقفه لاحقاً، لكن ظلت مراجعته في حدود الماركسية التقليدية.
وموقفه من النظام الناصري هو مثل رؤيته عموماً، تقارب ما هو جزئي إيجابي، وتنقد ما هو جزئي سلبي، لكن الأمر بحاجة لنظرة عامة تكشفُ البناءَ الاجتماعي العام وتناقضاته، نظرته تلك تقودُ للرجرجة الموقفية، ولعدم درس التناقضات العميقة في الواقع، ورؤية تطورها وحركتها، مما يؤدي بالكتابات إلى أن تكون مقالات تطفو على سطح الواقع، وتجعل قوى التغيير المختلفة لا تفهم بعضها وتتصادم.
بطبيعة الحال كتب محمود أمين العالم الكثير على مدى نصف قرن، وتحتاج كتاباته إلى جمع ودراسة من أجل الوصول لقراءات عميقة حولها.
صحيفة اخبار الخليج
14 يناير 2009