لم يسبق لأمم وشعوب العالم قاطبة ان صعقت ذهولا لما بلغته أمتنا العربية من هوان وهي تواجه عدوا عنصريا غاصبا محتلا لأرض شعب من شعوبها، كما صعقت خلال المجازر البشعة التي ارتكبها ومازال يرتكبها في عدوانه الأخير على غزة وعلى الأخص الأطفال والنساء، حتى أضحت ضمائر ملايين الأحرار والشرفاء من أبناء شعوب العالم، على اختلاف انتماءاتهم السياسية والدينية أكثر صحوة وتأثرا بما يجري في القطاع من ضمائر الملايين من العرب أنفسهم، أنظمة وقوى سياسية وحقوقية ومدنية. هذا اذا ما استثنينا بضع مئات الآلاف أو الملايين العرب الذين ما انفكوا يواصلون مظاهراتهم الاحتجاجية في شوارع العواصم العربية.
وكيف لا تصعق شعوب وأحرار وشرفاء العالم ذهولا مما بلغناه من هوان غير مسبوق وتحتج وتستنكر علنيا الصمت والتخاذل العربيين الفاضحين على نحو صارخ في وضح النهار وهي ترى ان حتى أبسط أوراق الضغط الدبلوماسية والفكرية والسياسية المفترض توظيفها قد تخلينا عنها جميعا من انظمة ومفكرين وحركات سياسية ومنظمة اقليمية تمثلنا (الجامعة العربية).
خذ على سبيل المثال كيف ان لدينا على الأقل ثلاث دول عربية تقيم علاقات دبلوماسية وتطبيعية شاملة مع دولة العدو الصهيوني، ولم تقدم أي منها ولو على مجرد استدعاء سفير دولة العدو لابلاغه ولو بلهجة عتاب “مؤدبة” بعدم رضاها عن مواصلة المجازر التي ترتكبها سلطات الاحتلال من جرائم دموية بشعة بحق المدنيين العزل، ولتسمها ان شاءت “عتابا” لعدم استجابة “الجارة” الصديقة اسرائيل لمساعي “وقف اطلاق النار” وليس وقف جرائم مذابحها، لا بل لم تقدم أي من هذه الحكومات التطبيعية على خطوة استدعاء سفيرها مؤقتا من تل ابيب.
ومع ان مثل هذه الخطوات ليست سوى احتجاجات رمزية مخففة جدا عادة ما تحدث حتى ما بين اكثر الدول تحالفا وصداقة في اوقات سوء الفهم او سوء التفاهم ثم تعود الأمور الى مجاريها الطبيعية، الا انها بامكانها، على رمزيتها، ان تخفف شيئا من احتقان وغضب الجماهير العربية سواء في الدولة التطبيعية المعنية نفسها او في سائر الدول العربية.
وخذ مثلا كورقة ثانية الدور الغائب تماما لجامعة الدول العربية من جبهة الساحة الدبلوماسية العالمية، فباستثناء الحضور المميز لأمينها العام عمرو موسى الذي تكاد تقتصر مهمته فقط، كأمين عام لمنظمة اقليمية قومية كبرى، على بذل الجهود والمساعي الحميدة لحل الصراعات الاهلية الداخلية العربية، كما حدث في العراق ولبنان والسودان، فضلا عن بذل الجهود والمساعي الدبلوماسية الحميدة لوقف المجازر الاسرائيلية بحق العرب، حيثما ارتكبت، فان لا احد يسمع بأي دور لهذا الجيش الاداري العرمرم من المسئولين والاجهزة البيروقراطية المتضخمة في هذه الجامعة العتيدة خلال المعركة الجارية التي يخوضها الشعب الفلسطيني الذبيح الصامد في غزة دفاعا عن ارضه وعرضه وكرامته وكرامة الامة العربية، حتى بدت الجامعة بأكملها مختزلة في شخص واحد هو امينها العام ولا احد سواه فيها ليلعب أدوارا واشكالا من وسائل الضغط الاتصالية والاعلامية من خلال مكاتب الجامعة المنتشرة في اوروبا وامريكا والقارات الاخرى، او من خلال المبعوثين للحالات الطارئة التي يفترض ان يجندهم الامين العام في مثل هذه الاحوال المأساوية ويوزع عليهم الادوار المطلوبة لتفعيل معركة العرب الدبلوماسية في فضح العدوان وايقاف مجازره طالما ليس لدى العرب من سلاح استمرأوه سوى السلاح الدبلوماسي.
وخذ مثالا ورقة ثالثة تتمثل في الغياب الكامل لأي دور مفترض للسفراء العرب الممثلين للدول العربية الكبرى الفاعلة على الساحة العربية وذات الوزن، كما يفترض على الساحة الدولية.. فأين هؤلاء السفراء وأين سفاراتهم وماذا يفعلون الآن خلال هذه المعركة التي يفترض ان يخوضوها دفاعا عن كرامة امتهم جمعاء قبل ان يكون ذلك نصرة لشعبهم الذبيح في غزة؟
وخذ مثالا رابعا متمثلا في تغييب الورقة الاعلامية، فأين هو الاعلام العربي، وعلى الأخص الموجّه للخارج، من كل ما حدث ويحدث من المشاهد التلفزيونية اليومية لتلك المجازر المروعة التي ترتكب بحق ابناء غزة؟ حتى بات المرء تساوره الظنون احيانا تحت تأثير صاعقة الذهول لهذا الصمت العربي عما اذا كان ما يشاهده هو حقا مشاهد مفبركة من افلام الرعب الهوليوودية أم هي مشاهد حقيقية منقولة من مسارح الجرائم الصهيونية على ارض غزة؟!
وهل ثمة معنى بعد الآن لتحذير الآباء والأمهات من مشاهدة ابنائهم لأفلام الرعب الأمريكية أو تصنيفها بأنها غير صالحة لأن يشاهدها ما دون الـ 12 أو الـ 16 عاما؟!
واذا كان واحد من أبرز مظاهر “تطنيش” واهمال دور الاعلام في توعية واستقطاب الرأي العام الغربي يتمثل في عدم وجود قناة فضائية بلغة عالمية رزينة عالية الأداء والحرفية في كيفية مخاطبة العقل الغربي وفق خطاب اعلامي مدروس راق، وبالمثل غياب صحيفة بلغة اجنبية أو اكثر عالمية موجهة للرأي العام الغربي، فلعل الفضيحة الاخرى الراهنة التي لا تقل خزيا عنها تتمثل في غياب اي مساهمة اعلامية عربية بالرأي او بالاعلانات المدفوعة لا في اي فضائية غربية كبرى ولا في أي صحيفة غربية كبرى.
أما غياب ورقة دور المفكرين وكبار المثقفين السياسيين وعامة السياسيين العرب عن هذه المعركة او ذهول العديد منهم عن المعركة الاساسية وتركيزه على المسائل الثانوية فحسب، فهو بحاجة الى وقفة خاصة مستقلة.
صحيفة اخبار الخليج
13 يناير 2009