شيع مثقفون من مختلف الاتجاهات ظهر السبت المفكر والناقد المصري محمود أمين العالم الذي فارق الحياة إثر أزمة قلبية داهمته فجرا عن عمر ناهز ال 87عاما.
ومحمود أمين العالم من مواليد العاصمة المصرية عام 1922ودرس الفلسفة في جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة اليوم) وعمل في مجالات شتى حيث كان أمينا لمكتبة إحدى الكليات في الجامعة وبعد حصوله على الماجستير والدكتوراه أصبح من طاقم التدريس في الجامعة.
وتخليدا لذكراه ينشر موقع التقدمي مقابلة صحفية مع جريدة الشرق الاوسط نشرت قبل ما يقارب السنتين
محمود أمين العالم لـ “الشرق الأوسط”: عملت بوظائف متواضعة من بينها مخزنجي كتب
شيخ المثقفين المصريين في عباءة الخامسة والثمانين
القاهرة: محمد حلمي عبد الوهاب
28 مارس 2007
بنينا مسجدا للشيوعيين في سجن الواحات رفض الإخوان المسلمون الصلاة فيه
في فبراير الماضي دخل محمود أمين العالم، شيخ المثقفين والشيوعيين المصريين عباءة الخامسة والثمانين. وبرغم ثقل السنين وضراوة تجارب النضال السياسي والفكري والسجن والاعتقال التي نسجت خيوط هذه العباءة إلا أنه لا يزال يطل عليك بوجه المرح البشوش، ويفاجئك بذاكرة خصبة، تستعيد الماضي البعيد بكل تفاصيله ووقائعه، وكأنه حدث بالأمس القريب… تعويذة مرهفة من روح العلم والفن والأدب والفلسفة، وقبل كل شيء من روح الواقع والحياة حفرها العالم في خريطة الواقع الثقافي المصري والعربي منحازا لأشواق الإنسان في العدل والحرية، ونضاله ضد قوى القمع والتهميش والإقصاء. في بيته البسيط بالقاهرة، حيث تلقاك مشربية مطعمة بالأرابيسك، ولوحة تصور مقاهي القاهرة مؤرخة بالعام 1963، وأخرى تجسد السيرة الهلالية. حاورته «الشرق الأوسط» حول حصاد كل هذه السنين… وهنا نص الحوار:
> دعنا نبدأ بتجربتك السياسية ونضالك الوطني ومرحلة الاعتقال كيف تراها الآن؟!
– كانت تجربة مريرة دون أدنى شك، فقد انتسبت مبكرا للحزب الشيوعي المصري، وكنت منذ البداية مهموما بمصر حضارة وواقعا، أنظر إليها عبر التاريخ وأعجب لحضورها القوي وشخصيتها الفذة، يتعاقب عليها المحتلون واحدا تلو الآخر فلا تهادن ولا تلين من اليونانيين للرومان للفرس للأتراك والفرنسيين والانجليز، وحاليا الأمريكان!! ثم يحكمها أبناؤها فيكرسون الظلم والاستبداد. وكانت بداية دخولي السجن تتمثل في أنني عُينت بالجامعة المصرية كمدرس مساعد وتم فصلي أنا ولويس عوض وآخرين بعد شهرين تقريبا بقرار من مجلس قيادة الثورة، ضمن حملة للقضاء على الشيوعيين من قبل النظام الناصري. وخرجت إلى الشارع وعملت بوظائف متواضعة للغاية، من ضمنها مخزنجي بأحد مخازن الكتب.
> هل شحذت هذه المحطة الأولى أو الصدمة وعيك الثوري ونظرتك للسلطة؟
– بالفعل، ثم عملت بروز اليوسف وحدثت إثر ذلك حرب بورسعيد، ونزلنا إلى الشارع المصري بكل ثقلنا السياسي مما مهد لحدوث اتصالات مع مكتب عبد الناصر. ولاحقا تم اعتقالي، أنا وآخرين، وتنقلت ما بين سجون القلعة والإسكندرية والواحات، وعذبنا كثيرا وضربنا ضرب الإبل!! واستشهد بعض زملائنا إبان التعذيب الذي كانت تمليه بواعث سياسية لا تعرف الرحمة ويقوم به جلادون مصريون للأسف!! عديمو الاحساس. عندما خرجت طلب مني السادات، ولم يكن رئيسا بعد، حل الحزب الشيوعي فرفضت رفضا قاطعا، فعدل مطلبه بعرض دخولنا ضمن الاتحاد الاشتراكي فاعترضت على ذلك أيضا. واقترحت، بدلا من ذلك، أن يدخل الحزب ضمن الاتحاد لكن دون حله وباسمه لتشكيل تحالف مع الأحزاب والقوى الأخرى ذات القواسم المشتركة فكريا وسياسيا، مع احتفاظ كل منها بشخصيتها المستقلة. ثم أعرب السادات عن رغبة النظام في أن أترك الحزب نهائيا وأعمل لدى السلطة، وهنالك انسحبت على الفور من الاجتماع معتبرا عرضه هذا إهانة شخصية وقفلت إلى بيتي مشيا على الأقدام.
> ومع ذلك ما زلت تحب عبد الناصر وتحترمه؟!
-بالفعل، ما زلت على اعتقاد راسخ، بأن عبد الناصر من أفضل الحكام المصريين، وأنا لست ضد القدر، ولكن يخيل لي أنه لو قدر لعبد الناصر أن يعيش أطول لتغير حال البلاد إلى الأفضل.
فقد تغير جذريا في المرحلة الأخيرة من حكمه وأدرك أن حاشيته التي صنعها بيديه توشك على الصعيد الشخصي أن تودي به، بعد أن ضيعت الأمة وخذلتها على الصعيد الحربي. كانت مشكلة عبد الناصر برأيي أنه تطلع إلى قيام وحدة عربية ومشروع توسعي لم يكن يدرك مخاطره وأن تحالفا من هذا القبيل لا يمكن للنظام العالمي والقوى المهيمنة فيه أن ترضى عنه حفاظا على مصالحها الخاصة.
وكان يضخم من أناه الشخصية على حساب مصالح الأمة فانعزل عن القاعدة الشعبية التي تؤسس لبقائه في سبيل عالم هلامي ومشروع توحدي لم يحن وقته بعد. لكن، وفي المقابل، ساهم في نهضة تنموية وأنشأ مشروعات عملاقة
مثل السد العالي وانحاز إلى الطبقات المهمشة، وقضى على الإقطاع، كما أوجد القطاع العام والجمعيات الاستهلاكية التي تعد بحق صمام أمان للمجتمع. ويكفي أن نذكر له مجانية التعليم، وهي أشياء نفتقدها الآن كلية في ظل نظام نخبوي يبيع ولا يملك، يهدم دون أن يبني.
> لكن ألا يعد موقفك هذا بمثابة تماهٍ مع المتسلط؟ فما فائدة بناء السدود في ظل نظام سلب من المواطن أغلى ما يملك وهو حريته، وألقى بالمناوئين، على اختلاف مشاربهم، في غياهب المعتقلات والسجون؟!
– هذا تبسيط للقضية، فلكل نظام حسناته وسيئاته، ودولة عبد الناصر كانت دولة ذات مشاريع حقيقية،على عكس الدولة المصرية الآن التي تهيمن وتستبد ولا تعمل لأجل الصالح العالم. هذا على صعيد التنظير العام، وعلى المستوى الشخصي فيكفي أن أعقد مقارنة لموقف كل من عبد الناصر والسادات من معارضتي. فكلاهما ألقى بي في السجون، لكن فيما امتنع عبد الناصر عن ملاحقتي أو المساس بأسرتي، طرد السادات زوجتي من عملها بالتلفزيون لمجرد معارضتي لمعاهدة السلام التي عقدها مع اسرائيل واعتبارها خيانة بكل ما تعني الكلمة من معنى، بالرغم من أنني كنت خارج البلاد آنذاك، وكانت تنظر بأسى إلى جهاز التلفزيون بعد طردها، فيما سافرت زوجتي لبعثات متعددة إبان عهد عبد الناصر وترقت في عملها وأنا في المعتقل! وكما كان عبد الناصر مخطئا كنا نحن أيضاً على خطأ في تقييمه. وعندما قامت الوحدة بين مصر وسورية، كنا مع الوحدة، ولكن اختلفنا معه في شكل وأسلوب قيامها، مؤكدين على خصوصية مصر وسورية، وأنه لا بد من احترام هذه الخصوصية. فبينما تعتمد مصر على النيل في الزراعة، تعتمد سورية في زراعتها على الأمطار، كما كانت الصناعة المصرية يومئذ متقدمة عن نظيرتها السورية، والتي كانت تعتمد على صناعة ما يسمى بـ “الشركات الخماسيَّة”، وقلنا لا بد مراعاة هذه الاختلافات عند إقامة وحدة بينهما، طبعاً هذا بخلاف الثقافة والعادات والتقاليد. أي أننا كنا معه في مسألة الوحدة؛ لكن اختلفنا حول الآلية التي ينبغي أن تطبق بها هذه الوحدة، فاعتبرنا عبد الناصر أعداءً للوحدة، ودخلنا السجن عام1959. وعندما فشلت الوحدة بين مصر وسورية، خرجت من السجن عام 1964.
> من هذا المنظور كيف تنظر إلى تحولات المثقف في الوطن العربي؟
– هذا سؤال مهم وأشكرك عليه، فالواقع أنني مهموم دائما بمصر التي أنظر لها تاريخيا، وآسف لما آلت إليه الأمور فيها حاليا، وبالنسبة لموضوع المثقف والسلطة فعلينا أن نتذكر بداية أن دلالات التثقيف في لغتنا العربية تحيل إلى النشاط والإيجابية والفاعلية. فثقف الرمح أي حوله من مادة صلبة إلى آلية مقاومة وقيمة وقانون. وتحول المثقف يرتهن إلى تحول الواقع ذاته، فالسلطة تنتج عملية البغي باستمرار في تعاملاتها اليومية، والمثقف العربي، غالبا تحت وطأة الجوع ولقمة العيش والاضطهاد، يلجأ للتعامل أو التماهي مع السلطة القائمة. ومن المثقفين من يتحول إلى بوق للسلطة يمجدها ويعلي من قيمتها، وإن كانت في الأصل غير ذات قيمة، وهو على يقين بينه وبين نفسه أنه على باطل. لذا أرى في احتكام المثقف، كل مثقف، إلى ضميره آلية حماية ضد الغبن والقهر والاستبداد العربي، وسيحفظ التاريخ مواقف هؤلاء وهؤلاء. وللأسف فثمة العديد من المثقفين سينتهي بهم المطاف في “مزبلة التاريخ”. ويكفي أن ننظر إلى الجرائد الحكومية وقد تحولت إلى منشور حكومي والمقالات التي يدبج به رئيس التحرير أخبار وأحداث الساعة لصالح السلطة الحاكمة.
> هل يعني ذلك أن المثقف الثوري الذي بشر به غرامشي لم يعد موجودا بعد، وليس ثمة أمل في أن يوجد؟
– ليس بالضبط، بل إننا يمكن أن نضيف إلى تصنيفات غرامشي وغيره، المثقف الساخط والمتمرد والمهادن. وهو أمر لا يقتصر على المثقفين دون سواهم، بل نصادف في حياتنا الشخصية البقال الساخط وبائع الجرائد المتمرد، ما يعبر عن حالة من الاحتقان الشعبي. وحاليا يتم إعادة هيكلة مجموعات تفرقت من جديد. فاليسار يحاول تجميع نفسه، والتكتلات توشك أن تتشكل، لكن يبقى ذلك كله مرتهنا بالسخط الشعبي ضد النظام. فوعي الجماهير لا بد أن يتحول إلى سلطة عملية، سلطة احتجاج ورفض ورغبة في التغيير وعلينا أن ندفع الثمن كما دفعه المناضلون من قبل. فالرأي العظيم بمفرده لا ينتج ثورة ما لم يرتبط برغبة الجماهير، وهنالك يتحول إلى فعل اجتماعي. ومن ثم، فلو قدر لحالة السخط العام أن يتم تأطيرها في برنامج عمل، فسيكون هنالك نوع من الأمل في التغيير وإجهاض ملفات التوريث وتحويل مصر إلى مؤسسة عائلية.
> من الفيزياء إلى الفلسفة كيف تقرأ تحولاتك الشخصية كمثقف؟
– أقرأ تحولاتي الشخصية في ضوء تجاربي التاريخية. فقد كان أبي يسعى لإلحاقي بقسم اللغة العربية، لكني درست الفيزياء في الماجستير، وفي الدكتوراه درست “الضرورة في العلوم الإنسانية”، ومن ثم اهتممت بالفكر الإنساني عامة وبالصوفية والوجودية. فخلال هذه الفترة ارتبطت برؤية صوفية عميقة، ومعادية فى نفس الوقت للرؤية العلمية الموضوعية، ولهذا التحقت بقسم الفلسفة. وفى قسم الفلسفة تأثرت بعبد الرحمن بدوي، الذي ألف كتابا عن نيتشه. كان بدوي حادا وشرسا، وكنت أعشقه عشقا لا حد له، وكانت أسرتي عاجزة عن دفع المصروفات- مثل أي أسرة بسيطة محدودة الدخل الآن وما أكثرهم- وكنت أعمق في نفسي الاتجاه النيتشاوي المثالي المعادى للعلم. واخترت موضوع الماجستير عن “فلسفة المصادفة في الفيزياء الحديثة” لأدحض بالمصادفة القوانين العلمية، وأؤكد مثالية الوجود. ثم وجدت كتابا للروسي لينين عن المادية، والذي فجر بداخلي كل الرؤى المعادية للعلم. وهنا خرجت عن نيتشه وآمنت بفكرة العلم، ومن ثم آمنت بالمادية التاريخية، والموضوعية التاريخية، ثم ارتبطت بالحركة اليسارية في أحد تكويناتها، وكانت نواة للحزب الشيوعي والتي كان لها هدفان، الأول هو استبعاد اليهود من الحركة الشيوعية، والثاني تجميع الحركة كلها في تنظيم واحد. فانضممت إليها، وحين خرجت من المعتقل جاءتني دعوة للعمل بجامعة اكسفورد بانجلترا، ثم وجهت لي دعوة أخرى بعد عامين من بقائي في انجلترا للتدريس بفرنسا، وهو ما يمثل منعطفا في توجهاتي العلمية. فحين ذهبت إلى هناك كنت معتقدا أنني سأدرس مبادئ الفيزياء الحديثة ونظرية النسبية، غير أني فوجئت بهم يطلبون مني تدريس الفقه الإسلامي!! ومن هنا ابتدأت علاقتي المباشرة والعميقة بالتراث الإسلامي، إذ استحضرت في ذهني ما كنت أقرأه لأخي الشيخ أحمد في الصغر وبدأت رحلة البحث والمعرفة.
> لكن مع اعتناقك للشيوعية هل كنت تستمد من التراث الإسلامي مبادئك الحزبية؟
– نعم، فالفكر الإسلامي يضم في جوانبه المتعددة أصول المادية التاريخية، فالمادية تعني كل ما هو متحقق. فالقصيدة والفكر على سبيل المثال يعدان Materialism، والمادية في التجربة الأوروبية تكمن في التحقق الموضوعي، والاشتراكية، في الأساس، موضوعية جدلية. ومن ثم فالتحليل الشعري ليس تشريحا لمادة الشعر بقدر ما أنه تشريح وتحليل لموضوع الشعر ذاته. وفي أدبنا مادية جدلية وفي تراثنا أيضا موضوعية جدلية. باختصار المادية الجدلية ليست ابنة عصر وإنما ابنة تطور. ولا يكف العلماء عن التساؤل حول: كيفية السيطرة على موضوعية الضرورة، وجدليتها، فكل شيء متحقق ولكن مع وبفضل متحققات أخرى، والجدلية تعني التفاعل الكائن بين الأشياء/الضرورات.
إن اكتشاف معنى الضرورة وتوجيهها لمصلحة الإنسان يمثل في الأساس الركيزة الرئيسة لتاريخ الحضارات منذ إنسان الغاب وحتى تشييد ناطحات السحاب، من خلال الاستفادة من العلاقات وتفجير علاقة جديدة وتحويل المعرفة من توظيفها لمصلحة طبقة إلى مصلحة الإنسانية، مع الأخذ بالاعتبار أن الاختلافات الواقعة بين البشر يجب أن تكون بحسب الكفاءة والفاعلية وليس بحسب الطبقية.
> مشاغبة أخيرة: هل أنت مشاغب بطبعك؟ وماذا تكتب الآن ؟
– أنا مشاغب بالفعل، ولعل هذا السبب الرئيس في تأخير فوزي بجائزة الدولة التقديرية، وعلى كل أشكرهم وإن كنت اعتبر أن الجائزة الحقيقية تكمن في الحب والقدرة على العطاء حتى النهاية. لكني، وبعد وفاة زوجتي، توقفت عن القراءة قليلا، وبضغط من ابنتي الدكتورة شهرت العالم، عدت لها من جديد، بيد أن افتقادي لوالدتها جعلني أفكر في وسيلة ما أرد من خلالها بعضا من الجميل الذي أحمله لها. وكنت في مطلع الخمسينات أتممت أنا وزوجتي ترجمة كتاب لبرتراند رسل اسمه “ألف باء النسبية” فكنت أترجم فصلا وتترجم هي فصلا آخر، لكن ظروف الاعتقال والترحال حالت دون نشره، وأنا الآن مهتم بإعداده للنشر وإهدائه إلى روح رفيقتي الحبيبة، عساها أن تنظر إلي بعين الرضا قبل أن ألقاها في دار الخلد بإذن الله.