قبل انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة لم تكن منظمات حقوق الانسان العربية بهذا العدد الذي بلغته الآن منذ انتهاء تلك الحرب، كما لم يكن دورها بتلك الفعالية التي هي عليها الآن حتى رغم كل اشكال التضييق والقيود المفروضة عليها بدرجات متفاوتة في كل الاقطار العربية، أما منظمات حقوق الانسان الدولية، وعلى الاخص العريقة منها والتي تتمتع بقدر معقول من المصداقية العالمية، كمنظمتي “العفو الدولية” و”هيومن رايتس ووتش” فقد كان جل تركيزها خلال سني الحرب الباردة على انتهاكات حقوق الانسان في دول المعسكر الشرقي بقيادة الاتحاد السوفييتي.
الآن وقد بات واضحا ان المنظمات الحقوقية العربية، ورغم ما تواجهه من قيود ومضايقات رسمية داخل بلدانها فإنها تتمتع بمصداقية ومكانة دولية في المحافل العالمية ولدى الامم المتحدة ومنظمات حقوق الانسان العالمية، ولأن هذه المنظمات الأخيرة هي الأخرى باتت تولي اهتماما أكبر لأوضاع حقوق الانسان في بلدان العالم الثالث ومنها بلداننا العربية، فانه يفترض من هذه المنظمات الا تكون انشطتها وفعالياتها وسائر اشكال ووسائل ضغوطها من أجل الدفاع عن حقوق الانسان في زمن السلم مثلها في زمن الحروب الذي ترتكب خلاله ابشع الجرائم اليومية التي يندى لها جبين البشرية كما يجري تماما الآن بحق الشعب الفلسطيني الاعزل في غزة الذي يتعرض على أيدي قوات الاحتلال لمجازر جماعية بشعة تطاول أطفاله ونساءه ورجاله الابرياء بواسطة مفرمة أحدث اسلحة الفتك والدمار الامريكية التي تقطع لحومهم.
اليوم فان قضية حقوق الانسان العربية الاولى التي ينبغي ان تتداعى لها المنظمات الحقوقية القطرية والقومية العربية والتي ينبغي الا يعلو صوت عليها في اللحظات الراهنة هي قضية وقف جرائم الابادة التي ترتكبها سلطات الاحتلال بحق العزل المدنيين الابرياء في غزة أمام مرأى ومسمع العالم المتمدن بأسره، ناهيك عن كل اشكال المآسي والمحن الاخرى المترتبة على هذه الحرب العنصرية الهمجية الحاقدة التي تشنها النازية الصهيونية بتلذذ سادي لرؤية الدماء المتفجرة من اشلاء الاطفال والابرياء المدنيين، من حصار تجويعي وتعطيشي ودوائي ونسف منازل ومساكن على ساكنيها وتشريد، وتجويع وغيرها من المآسي الاخرى المتولدة من هذا العدوان الهمجي المتواصل.
وإذا كان لا أحد ينكر ما تلعبه منظمات حقوق الانسان العربية والدولية من دور في زمن السلم للتنديد بانتهاكات حقوق الانسان، سواء داخل الاقطار العربية ام داخل الاراضي الفلسطينية المحتلة بما في ذلك الضفة وغزة، وذلك من خلال التشهير بتلك الممارسات وفضحها أمام الرأي العام العالمي، واتخاذ كل اشكال الضغوط الممكنة على السلطات العربية والاسرائيلية للإقلاع عنها أو وضع حد لها، بما في ذلك دفع المؤسسات الدولية المعنية كالامم المتحدة لاتخاذ القرارات اللازمة المناسبة لتشكيل مثل تلك الضغوط الممكنة، والتشهير بتلك الانتهاكات في المحافل الدولية ووسائل الاعلام الدولية.. فان من غير المفهوم ان يكون الدور الذي اعتادت ان تلعبه المنظمات الحقوقية العربية بشكل خاص والمنظمات الحقوقية العالمية بوجه عام في زمن السلم هو نفسه بنفس الآليات البطيئة والرتابة في زمن الحرب او على الأصح في زمن ارتكاب اسرائيل جرائمها الوحشية العسكرية بحق المدنيين الابرياء.
وإذا كان لا أحد ينكر ما تجترحه أكثر المنظمات الحقوقية العربية مصداقية من معارك ضارية صعبة في ظروف سياسية بالغة التعقيد من اجل الدفاع عن حقوق الانسان العربية في الظروف العادية زمن السلم، فمن باب أولى ان تضاعف هذه المنظمات اقصى جهودها الممكنة وتبتكر شتى الاشكال المكثفة من الضغوط المتنوعة لوقف المجازر الدموية الجماعية المتواصلة التي يرتكبها الفاشيون الاسرائيليون في غزة، ومن ثم حشد اقصى الطاقات والمساعي لاشراك اكبر عدد ممكن من منظمات حقوق الانسان العالمية لتشكيل جبهة عالمية واحدة موحدة من هذه المنظمات لوقف هذه الجرائم الصهيونية في غزة والتي لا تضاهيها جرائم أخرى خلال هذه اللحظات العصيبة الفاصلة من تاريخ الانسانية في الحجم والخطورة حيث باتت تهدد حياة مليون ونصف مليون انسان في قطاع غزة: هذا إلى جانب ممارسة اقصى اشكال الضغوط الممكنة انطلاقا من الاصعدة القطرية والاقليمية لتقديم مرتكبي جرائم الحرب هذه الى محاكمات دولية عادلة لينالوا عقابهم الرادع جراء ما اقترفته ايديهم من جرائم جماعية بحق الانسانية في غزة، وصولا إلى تمكين ومساعدة الشعب الفلسطيني على الخلاص من الاحتلال الاسرائيلي الذي ابتلي به وجثم على ارضه وعليه منذ أكثر من 60 عاما وبناء دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشريف.
فهل نأمل في ان تبادر منظمات حقوق الانسان العربية سريعا للاضطلاع بمسؤولياتها الانسانية والوطنية والقومية العليا في هذه اللحظات الحاسمة من تاريخ القضية الفلسطينية، حيث تواصل جحافل النازيين الاسرائيليين غرس انياب صواريخ حقدها العنصري الاعمى في اجساد الاطفال الطرية، بحيث تكون هذه المنظمات في صدارة الشعوب والحركات العربية الضاغطة على حكوماتها من اجل نصرة شعبنا في غزة؟!
صحيفة اخبار الخليج
11 يناير 2009