يعتقد الكثيرون أن وحدة الأمم على أساس ديني قد انتهى زمانـُها، وقد عمل التحديثيون على فصل الأمة العربية عن جيرانها وشركائها لما ظهروا عليه من طريقة إنتاج إستيرادية للجاهز من منتوجات الأمم المتقدمة، مثلما عمل التقليديون الدينيون على العيش على الجاهز من ميراث المسلمين التقليدي.
ولكن في حين أظهر التعامل مع الأمم التحديثية المُقلــدة في الشرق والغرب بعض فوائده، إلا أن هذا الزرع المستنبت لم يصمد لغوائل الزمن، أو قوى الفعل الداخلية في هذه الأمم المُراد نقلها من التخلف للحداثة.
إن هذا الاستزراع الحضاري التحديثي كان في قسم كبير منه لا يؤمن بتراث هذه الأمم الإسلامية وتاريخها، وتجاربها، وقد آمن بالجاهز مثلما نقل المكيفات والسيارات دون أن يقدر على صناعة مكيف أو سيارة.
لقد فكرت بعضُ الأمم الأكثر تنمية من بين الأمم الإسلامية على التحليق وحيدة في الفضاء العالمي والوصول للتقدم والنهضة بدون الحاجة إلى أخواتها من الأمم الإسلامية الأخرى، كما فعلت الأمة التركية وطارت لوحدها مخترقة الحواجز القارية والدينية، نحو أوربا الحداثة، ولم تهتم بأخواتها من الأمم الإسلامية، بل حتى بالشعوب الصغيرة الإسلامية التي حكمتها وكانت ضمن حدودها!
وهذا ما حاولت الأمة الفارسية ذلك في عهد الأمبراطورية معتمدة على بعض المظاهر الحضارية والعسكرية المستجلبة من أقوى دول الغرب.
وهذا ما حاولتهُ بعضُ الشعوب العربية ثم وجدتْ نفسَها في محيطها، وقامت شعوبٌ من الأمم الإسلامية بجرها للوراء أو بتوريطها في معارك دولية هائلة.
وجدت الأممُ الإسلامية كلـُها بأنها في مواقع متدنية، وتفجرت خلافاتٌ بينها، وراحت المناطق الأقل تطوراً في فرض وصايتها على المناطق الأكثر تطوراً!
راحت إفغانستان على سبيل المثال تفرضُ حضورَها، وكانت مثل كرة قدم تتبادل رميها الأمم الهندية والباكستانية والروسية والأمريكية والعربية، مع تحقيق هزائم مستمرة للجميع.
قامت أفغانستان بجر الأمم الإسلامية خاصة نحو قاع عميق لا قرار له من الخسائر والكوارث.
لقد تصورت بعض الأمم مثل الأمة الروسية بأنها قادرة على جعل هذه الأمة الأمية المتخلفة أن تصل إلى ذرى النجوم من التقدم، لكن حدث العكس.
وتصورت قوى حزبية عربية مثل القاعدة بأنها سوف تجعل إفغانستان قاعدة لعودة الإسلام النقي، فاتخذتها قاعدة للتخريب، فجلبت على إفغانستان الكثير من الدمار والتخلف.
لكن ألم يكن ذلك نتاج رؤى سياسية متخلفة؟!
كان المبشرون الإسلاميون يذهبون للدول الإسلامية لكي يعلموها بأصول دينها وهي التي تعرفها، وفي أغلب الأحيان كانوا يفرضون عليها قوالب سياسية لسيطرتهم المذهبية الخاصة.
لكن هل قام أحد من العرب أو الفرس أو الترك بمعرفة حاجات إفغانستان من التنمية الزراعية ومن إفتتاح المصانع والمتاجر والمراكز الثقافية؟
بل هل فكر أحد بنقل أدب إفغانستان للعربية أو الفارسية؟
هذه تبدو مثل رواية (الأخوة كرامازوف)، حيث يقوم الأخوة بالعراك من أجل مصالحهم وإنانياتهم ثم بجعل الأخ المتخلف يقتل أب الجميع.
هذا ما يحدث لأمم إسلامية تعيش في مستويات معيشية مختلفة، كالأمازيغ (البربر) والمغول والأكراد والتركمان والأندوينيسيين، ويحكم بعضها بقسوة وتلغى تقاليده ولغاته.
لقد قامت القاعدة بذكاء بإستغلال فوارق التطور والمعرفة وقاربت بين بدو الجزيرة العربية وبدو إفغانستان وباكستان والهند، مثلما فعل العباسيون بإستغلال إقليم خراسان من أجل (الثورة).
وفي الجهة المقابلة، جهة المسلمين الأكثر تطوراً، لم يستفيدوا من ثرواتهم لأجل تطوير هذه المناطق، بل نقلوا جل ذهبهم وحصالاتهم نحو الغرب والشرق غير الإسلامي.
ويؤدي ذلك إلى جعل المناطق الإسلامية المتخلفة المرتبطة بالبلدان الإسلامية تزيد من غضبها، وتتحول إلى بؤر إشتعال، فتجر سلسلة هذه البلدان نحو منطقها وعنفها.
ثم لا تستطيع الأمم الإسلامية أن تقضي على هذا الغلو فتجيء الأمم المسيحية لمعالجة مشكلات البلدان الإسلامية! ومستخدمة الجيوش الجرارة لحل مشكلات هي في أصلها مشكلات تنموية وعدم معرفة دينية عميقة بالإسلام.
ولكنها بطبيعة الحال لا تستطيع فهم ذلك، لأنها تعتبر المسألة مجرد قضية إرهاب وسلاح لا غير!
وهكذا فإن قضايا مثل قضية شعب إفغانستان تتفاقم وتجر إليها الشعوب القريبة كالشعب الباكستاني وخاصة في الأقسام القبائلية البدوية فيه، مما يؤدي إلى تدهوره وصراعاته.
وهذه تجرُ شعوباً أخرى كالشعب الهندي وتغدو قضية عالمية كبرى.
إن الأمم الإسلامية أمم ذات وحدة تاريخ وتراث، فهي لها خصائص مستقلة نسبياً عن تواريخ الأمم الأخرى، ويقود تطور أو تدهور تراثها ومعالجته إلى تطور أو تدهور أوضاعها جميعاً.
فمدرسة سياسة فكرية تنشأ في الرباط بالمغرب يكون لها صداها في أندونيسيا، وهي حين تطرح معالجات اجتماعية خاصة بعالم المسلمين، يتأثر بها الجميع.
لكن أية وجهات نظر تطرحها وهل هي تؤدي إلى تقدمهم أم تزيد مشاكلهم؟
وفي العديد من الأحيان فإن القوى الدينية التقليدية تنشر وجهات نظر عبر التبشير والتدخل والتأثير، وهي قائمة على الحماس الإيديولوجي السياسي الراهن وعلى التعصب في غالب الأحيان، وعلى نقل مناطق من هذه البلدان لوجهات نظر سياسية فوق مستواها أو تؤدي بها إلى صراعات مذهبية وسياسية طاحنة.
فقد كانت التأثيرات المذهبية السياسية المتحمسة قد غيرت إفغانستان من شعب موحد لا يهتم باختلافاته المذهبية إلى أن جعلته يتصارع بعنف ويمزق خريطته الوطنية.
صحيفة اخبار الخليج
11 يناير 2009