لم يكن الكاتب الاسباني سرفانتس في روايته التي دخلت في عداد كنوز الأدب الروائي الكلاسيكي: «دون كيخوت» يرمي إلى تمجيد بطله. كان هدف سرفانتس الذي عاش بين القرنين السادس عشر والسابع عشر هو هجاء مفهوم الفروسية الذي بدأ يتهاوى مع تزعزع مكانة الإقطاع وبواكير صعود البرجوازية الأوروبية. لكن ما من أحد قرأ الرواية أو شاهدها على المسرح أو في السينما إلا وتتعاطف مع البطل. بل أن الكاتب نفسه لم يخفِ هذا التعاطف في الطريقة التي تناول بها «بطولات» ذلك الرجل الذي راح ينازل طواحين الهواء ظانا انه يُنازل جيوشا مجيشة. إن دون كيخوت أضحى بطلاً أثيراً من أولئك الذين نحبهم في الأدب، شأنه في ذلك شأن «هاملت» شكسبير و«فاوست» غوته وسواهما. كان دون كيخوت مُدمنا على قراءة الكتب ومولعا بالأحلام وعدم التلاؤم مع واقع متحول كان يرفضه، لأنه غير قادر على التالف معه. لذا فانه جرى وراء هذا الحلم، الذي هو إلى السراب أقرب منه إلى الحقيقة، فارتدى لباس الفرسان واصطحب معه مرافقه إلى حيث المجهول والمغامرة راغبا في استعادة حياة الفروسية التي طالما قرأ عنها في بطون الكتب التي استهوته. كان يبحث عن البطولة، عن المجد، عن دورٍ يتخطى إمكانياته وإمكانيات الواقع، ولأن الأمر كذلك فانه لم يكن أمامه من مخرج سوى الإغراق في الوهم وتصديقه. لم ينسَ سرفانتس أن يرسم ملامح بطله الإنسانية: حالم وخجول ومولع بالفروسية، روحهُ تنم عن الرحمة والإخاء، وتشيع فيها روح دينية متحفظة، ولم يكن يدرك وهو يغرق في الحلم انه كان يخدع نفسه. كان ذلك شعوراً خفياً ولكنه كلما اصطدم بالوقائع في مغامراته كلما أدرك ذلك بالتدريج. ولم يكن أمراً غير ذي مغزى أن سرفانتس اخترع شخصية مرافقه «شانسو» الفلاح الذي عركته الحياة. كان مخزوناً من الحكم والأمثال الشعبية والمعرفة الفطرية الذكية بتعقيدات الحياة، وكان يُزجي النصح لفارسه طوال تلك الرحلة الشاقة، لكن نصائحه كانت تُقابل بالصمت، لا بل بالازدراء من قبل الفارس الذي أراد أن يصمم العالم على هواه، لذلك فانه كان يتصور السهل الغارق في الصمت سلسلة أخاديد تنبثق منها أرتال الفرسان الذي لا وجود لهم إلا في رأسه! كم من دون كيخوت حولنا؟ّ كم من دون كيخوت في هذا العالم الذي يتحول إلى صورة أخرى غير الصورة التي نشأوا عليها أو تلك التي شكلوها من الذي قرؤوه، كم من دون كيخوت يغرق في الحلم، ويذهب مع هذا الحلم الى ما يشبه الجنون الذي يجعله يتصور الجيوش طواحين هواء في قراءة معكوسة لدور بطل سرفانتس. و«الدون كيخوتية« المعاصرة مُستقاةٌ من واقع مليء بالعسف والمظالم والخلو من الرحمة، لذا فإنها قادرة على استثارة العواطف إزاء دعوتها لفروسية جديدة بوجه ترسانة حرب لا قبل للفروسية على مواجهتها، لكن الدون كيخوتية بكل ما عرف عنها من اعتداد لا تسلم بان وسائلها أعجزمن أن تحقق أمانيها. لكن يظل أن لكل زمن «دون كيخوته» الخاص به. دون كيخوت لم يمت. دون كيخوت لا يموت!
صحيفة الايام
11 يناير 2009