تأسيساً على ما سبق ذكره في الحلقة الأولى من هذه الدراسة من حقائق حول وضعية اللجنة المالية ومسؤولياتها الجسام حيال دراسة مشروع الموازنة العامة وما يعتريها من ضغوط وانعكاسات وتداخل في الرؤى, وما رسخه مجلس النواب في الفصل التشريعي الأول من تجارب يمكن البناء عليها للمستقبل, وحيث إن دراسة الموازنة العامة للدولة هي بمثابة الغوص في كافة تفاصيل إدارة الشؤون المالية والاقتصادية ودراسة مشاريع وتوجهات الدولة التنموية المختلفة على مختلف الصعد الاقتصادية والاجتماعية والتعليمية والصحية والرياضية وغيرها, وبالتالي فهي عمليا إسهام حقيقي في رسم سياسة وتوجهات الدولة على مدى عامين هما مدة الفترة الزمنية للموازنة العامة المراد إقرارها, ومن خلال ما يفترض أن تقدمه الحكومة من برامج ومشاريع وتوجهات تنموية مرفقة مع مشروع الموازنة العامة ذاته.
فقد ساعدنا ذلك الفهم المبكر نسبيا لأهمية ما أصبح حينها بين أيدينا من برامج ومشاريع وأرقام على مقارعة الحجة بالحجة والأرقام بالأرقام ومواجهة الأداء الحكومي في تنفيذ المشاريع باقتراحات جديدة على مستوى الإدارة العامة للدولة مثل سياسات التوظيف ومشاريع الخصخصة والأجور ومشاريع الكهرباء والماء والسياسات التعليمية والصحية والإسكانية والتوظيف وغيرها, وبالنسبة لغالبية أعضاء لجنة الشؤون المالية والاقتصادية في الفصل التشريعي الأول, ربما كان آخر شيء يهمنا هو إقرار الموازنة في الفترة المحددة التي تريدها الحكومة, نظرا لما لدينا من مبررات موضوعية للرد على من سيحاولون الضغط باتجاه إقرارها بأي ثمن, وهي في حدود ثمانية أسابيع منذ تسلمها رسميا من قبل الحكومة, حيث كنا باستمرار نمتلك المبرر الموضوعي على نقص ما قدم لنا من معلومات وخلوها من التفاصيل المطلوبة, بل أننا أعلنَا ذلك للمجلس من خلال الجلسات العامة, والأهم منه أننا أحطنا الرأي العام علما منذ اليوم الأول بأن الموازنة لن تقر ولن تمرر طالما لم تقدم الحكومة المعلومات والأرقام التفصيلية المطلوبة, وهكذا كان, فبدلاً من الفترة المحددة لمناقشة وإقرار الموازنة فإننا استغرقنا قرابة ستة أشهر لإقرارها, وكانت الحكومة حينها تحاول الضغط بالشارع على أعضاء اللجنة من أجل إقرار الموازنة بالسرعة التي تريدها من دون السماح لمزيد من التفاصيل للوصول للنواب,
وكان من بين أوراق الضغط التي لعبت بها الحكومة هو أن أعضاء اللجنة يسهمون بتأخيرهم إقرار الموازنة في تأخير زيادة وعلاوات الموظفين في القطاع العام واضطرار الحكومة كما كانت تعلن دوما لصرف رواتب موظفيها مستخدمة آلية واحد على اثنتي عشر, كما أصطلح على تسميتها, أو أنهم السبب في تخلف الدولة عن البدء في مشاريع حيوية للناس من جسور ومحطات كهرباء وبيوت إسكان واستملاك أراضٍ لاستصلاحها, أو بناء مدارس وعيادات صحية وتوسعة مطارات وموانئ وغيرها, وكان ذلك مفهوما وواضحا لنا في لجنة الشؤون المالية, وفي الحقيقة لم نكن نجد ضغوطا تذكر من بقية الكتل, نظرا لما فرضته اللجنة من أمر واقع كان من الصعب تجاوزه حتى من قبل رئاسة المجلس عوضاً عن الكتل.
وعلى الرغم من محاولات الحكومة المستمرة في عمل اختراقات من خلال بعض الكتل والأعضاء, إلا أن ذلك لم يغير من الأمر شيئا تحت إصرار المخلصين من أعضاء اللجنة على استكمال مهمتهم بمسؤولية وضمير وطني, وقد كان سندنا الحقيقي في أداء مهمتنا تلك بصورة مسؤولة, هو تفهم الشارع بشكل عام لدورنا وأهميته والذي لعب فيه تواصلنا اليومي مع الناس والجمعيات السياسية وبقية مؤسسات المجتمع المدني والمجالس الأهلية ووسائل الإعلام المختلفة دورا مهما,
بدلا من الإنزواء في نقاشاتنا اليومية مع الدولة داخل الغرف المغلقة, وكانت تلك أسباباً جوهرية لفشل كل محاولات الإختراق تلك, حيث إننا كسبنا الرأي العام الى جانب دورنا في مناقشة هذا الملف الرئيسي وتسهل مقارنة ذلك الوضع بما يجري الآن من مناقشات حول الموازنة العامة للدولة.
وخلال مناقشة موازنتي 2005-2006 وكذلك 2007-2008 قدمت معلومات ناقصة ومجتزأة مستغلة عدم وجود طواقم إسناد من استشاريين وغيرهم لعمل اللجنة, لكنني اقول لكم إن ذلك كان عامل تحد آخر, جعلنا نلغي ذواتنا ونعمل حتى ساعات متأخرة من الليل والنهار في سبيل إخراج الموازنة العامة بالصورة الملائمة وبحسب مجهوداتنا وقدراتنا الفردية وبما يرضي ضميرنا الوطني قبل كل شيء آخر. وكانت نقاط الخلاف مع الحكومة تتمحور في عدم اقتناع اللجنة بعدة أمور لعل على رأسها موازنة الإيرادات ومنها الإيرادات النفطية وغير النفطية وحجم مساهمة الاستثمارات الحكومية في تلك الميزانية بشكل أكثر تحديدا, والتي أعتقد أنها بالفعل لا زالت في حاجة ماسة وسريعة لإعادة النظر فيها, فهي بهكذا وضعية ستبقى محل انتقاد مستمر من قبل المعنيين والمهتمين من أهل الاختصاص, والذين لا يمكن لهم أن يؤسسوا لقناعاتهم جراء ما يعتري باب الإيرادات من نكوص وعدم اتساق وسوء إدارة في مداخيل الدولة وقنوات إيراداتها المتعددة, بما يمكن أن يشكل بالفعل قناعة وطنية حقيقية بذلك.
صحيفة الايام
11 يناير 2009