أولاً هل هناك دول ‘طرّارة’ (تعبير خليجي دارج يعني الدول المتسولة)؟ نعم لقد اقترنت ظاهرة التسول والمتسولين (الطّراروة) بالأفراد كما هو معروف وشائع. إنما أن يصل الأمر بالدول وحكوماتها لتمارس عادة تسول أحد أشكال الدعم والمساعدة فهذا ما لا يستقيم والبنية السيادية، القانونية والأخلاقية، للدول والبروتوكولات والأعراف الدولية، ولكن شتان بين هذه الأنساق والقواعد وبين الواقع الدولي المعاش، ففي هذا الواقع هنالك العديد من الدول التي تجد نفسها أكثر في توسم عشم الدول الغنية من ابتداع برامج خلاقة لحشد وتسخير كافة الطاقات المحلية المتاحة والبناء عليها. والطرارة أو التسول على صعيد الدول، أنواع وأشكال. فهنالك سلوك الطرق التقليدية المتبعة في استجداء العون والمساعدات الدولية من الأطراف والأقنية المتيسرة والمعروفة، وهناك التطوع لقبول النهوض بمهام لوجستية لصالح أطراف ثالثة لقاء الحصول على مساعدات ثابتة أو مقطوعة أو الحصول على تسهيلات وميزات محددة. جمهورية تشيكيا هي أحد النماذج المضلّلة للدول المتسولة (الطرّارة)، فهي إذ تخدعك ويخدعك شعبها بأنفتهما وغرورهما، إلا أنها في حقيقة الأمر لازالت تعيش في جلباب عقدتها من عقود الخضوع للتبعية الألمانية في القرنين الرابع عشر والخامس عشر ثم ولمدة 300 سنة لهيمنة الإمبراطورية البروسية الهنغارية التي استمرت حتى نهاية الحرب العالمية الأولى في عام .1919 ولم تهنأ القومية التشيكية التي استدرجت القومية السلوفاكية في إعادة تأسيس دولتها في عام ,1918 إذ سرعان ما عاد النازيون في بداية الحرب العالمية الثانية في عام 1939 وضموا مقاطعتي بوهيميا ومورافيا إلى الدولة الألمانية قبل أن تعود دولة تشيكوسلوفاكيا مرة ثالثة للمسرح الدولي بعد تحريرها على يد القوات السوفييتية في ابريل ,1945 العام الذي وضعت فيه الحرب العالمية الثانية أوزارها. وعندما أصبحت تشيكوسلوفاكيا جزءاً من الكتلة الإشتراكية العالمية التي قادها الإتحاد السوفييتي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى عشية سقوطه في عام ,1995 كان التشيكيون (وليس السلوفاكيين) لا يخفون نبرة غرورهم ونكرانهم للجميل والهزأ والسخرية من أبناء القومية السلوفاكية الذين كانوا ينظرون إليهم نظرة دونية كفلاحين متخلفين. فما ان تفكك الإتحاد السوفييتي ومعه كتلته الشرقية حتى قاموا بتفكيك الفدرالية التشيكوسلوفاكية في عام 1993وتحولوا لتملق الغرب واستجداء عضوية حلف شمال الأطلسي ‘الناتو’ في عام 1999 توطئة للإلتحاق بمنظومة الدول الأوروبية الغربية المتقدمة المؤتلفة في إطار الإتحاد الأوروبي لجني ثمرات هذه العضوية وإشباع غرورهم بالتفوق والتميز ، حيث نجحوا فعلاً في الحصول على عضوية الإتحاد في عام .2004 وعندما أعلنت الولايات المتحدة عن عزمها نشر ما أسمته بالدرع الصاروخية في أوروبا سارع التشيكيون للتطوع بدعوة واشنطن لنشرها على أراضيهم، في استفزاز وقح للجار الروسي لا يليق إلا بالدول الخائبة المتعايشة على استجداء الدعم والمؤازرة لقاء ‘توفير الخدمة’. فلا غرو، والحال هكذا، أن يعلن وزير خارجية تشيكيا كارل شفارتسينبيرغ فور تسلم بلاده الرئاسة الدورية للإتحاد الأوروبي (مدتها ستة أشهر)، أن العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة يندرج في إطار الدفاع عن النفس(!). وليته اكتفى بنسب هذا الموقف الصفيق ببلاده، ولكنه أصر على الإدلاء به باسم الإتحاد الأوروبي، وهو الذي لم يكن ليتخيل يوماً أن تترأس بلاده، ولو إلى حين، دول أوروبية كبرى رئيسية في الاتحاد الأوروبي مثل فرنسا وألمانيا وبريطانيا. فكان أن تسبب هذا الموقف التشيكي الأخرق في إحراج الاتحاد الأوروبي كمفوضية في بروكسل وكدول أعضاء، ما حدا بكل من لندن وباريس للمسارعة للتبرؤ من هذا التصريح والإعلان عن عدم تعبيره عن الاتحاد الأوروبي، مما اضطر الدولة الطارئة إلى سحب تصريح وزير خارجيتها ولكن من دون الاعتذار عنه. وهل يعتذر المغرور عن سوءاته؟ كلا بطبيعة الحال، لأنه لا يملك الارتداع عن غيه، خصوصاً إذا كان مخزون هذا الغي وفيراً يحتاج إلى تصريف منتظم، كما هو حال تشيكيا التي كانت قد أعلنت أصلاً، ومن قبل تسلمها الرئاسة الدورية للاتحاد الأوروبي، إنها تعتزم عقد قمة بين الاتحاد الأوروبي وإسرائيل. أولم يسمها دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأمريكي السابق بـ ‘أوروبا الجديدة’ (أي أوروبا المطواعة والتابعة لبلاده) نكاية بألمانيا وفرنسا وبقية الدول التي رفضت (باستثناء أسبانيا التي كان يحكمها اليمين وقتذاك) تأييد الحرب الأمريكية ضد العراق عام ,2003 والتي أسماها أوروبا القديمة؟ ولكن.. ما الذي شجع حتى ‘الصغار’ للتطاول علينا والنيل من كرامتنا ومصالحنا بعد أن اعتدنا تلقف الحيف والضيم من ‘الكبار’؟ إنه تخاذلنا وتهاوننا، فلو لم نكن ندير خدنا الأيسر عندما يصفعنا أحد الكبار على خدنا الأيمن لما تجرأ الصغار على النيل منا ولكانوا فكروا ملياً في عاقبة إثمهم. في الأثناء، وفي ذات السياق، ما الذي نفعله؟ ما نفعله غير معقول: ‘نقطّع في بعض ونخبط رأسنا في بعض’ ونهيل التراب على أنفسنا! أي إننا انصرفنا لتصفية حساباتنا مع بعضنا البعض واتخاذ المواقف الكيدية إزاء بعضنا البعض، بل وحتى الشماتة المضمرة مما يتعرض له بعضنا على يد الغريب، وذلك في تغييب صريح ولافت لأحد أنساق مكونات ارثنا الثقافي الذي عادة ما يستحضر في مثل هذه الملمات، ونعني بذلك ‘أنا وأخي وابن عمي على الغريب’! إلى ذلك أيضا نجد أن البعض قد شطح وذهب بعيداً في تخبطه، بإشهاره، باستخفاف مريب سيف التشهير والتسقيط في وجه مصر واعتبارها الملامة الوحيدة فيما جرى والمسئولة عن تداعياته. وهذا موقف يحمل الكثير من التجني غير المنصف والخالط قصداً للأوراق. فحذار من الإنجرار وراء حملة التحريض والتشهير الرخيصة ضد مصر على خلفية الخلاف المصري مع حماس بشأن حوار القاهرة بين فصائل المقاومة الوطنية الفلسطينية الذي رعته القاهرة ولم يكتب له النجاح وترتب عليه الخلاف المعروف بشأن اتفاق التهدئة مع إسرائيل. على أية حال، وبالعودة إلى موضوعنا نقول إن أخشى ما نخشاه هو أن يتم نسيان موقف تشيكيا العدائي سالف الذكر والتغاضي عنه ونسيانه واستقبال وزير خارجيتها في العواصم العربية بصفته رئيس الدورة الحالية للإتحاد الأوروبي بل وربما بصفته وزيراً لخارجية تشيكيا والإستجابة لتملقات ودعوات بلاده للإستثمار فيها لإنتشالها من أزمتها الإقتصادية. الراجح أن هذا ما سيحصل للأسف الشديد، فلا يمكن لحليمة إلا أن تعود إلى عادتها القديمة!
صحيفة الوطن
10 يناير 2009