مع ان المظاهرة الاحتجاجية الكبرى الاسطنبولية المليونية ضد العدوان الاسرائيلي على غزة التي جرت الاسبوع الماضي غداة الاجتياح البري قد فاجأت في حجمها ليس العالمين العربي والاسلامي فحسب بل العالم بأسره، ومع ان قوى ورموزا يسارية وديمقراطية ونقابية تركية شاركت وجماهيرها فيها، إلا ان ثمة أكثر من رسالة أراد من خلالها منظمو هذه المسيرة، التي كان للقوى الاسلامية الدور والثقل الاساسي فيها، توجيهها من خلالها، أي ليس مجرد رسالة احتجاج على العدوان الصهيوني على قطاع غزة، او التعبير عن ألم الضمير التركي المسلم وسخطه ونقمته من المجازر الوحشية التي ارتكبها بحق أهلها المسلمين. وهنا نكاد نلمس أو نشم عدة رسائل اخرى في آن واحد متداخلة وغير خافية على اللبيب المتتبع بإمعان لهذا الحدث التركي الكبير ودلالاته وذلك على النحو التالي: الرسالة الأولى: تتمثل باختصار في حجم المسيرة، فهذا الحجم الذي فاق كل التوقعات لا يمكن التسليم بأنه جاء كله مصادفة أو عفويا من دون تعبئة أو تنظيم مسبق، فالعنصر التنظيمي واضح جدا، إن في كلمات المتحدثين الذين تناوبوا على القاء الخطب الحماسية الملتهبة في ذلك الحشد الجماهيري الكبير الهادر، وإن في اعلام وشعارات القوى والاحزاب التي شاركت في هذا الحشد. ومع ان حزب السعادة الاسلامي الصغير في الحجم هو الذي أعلن تنظيم المسيرة إلا انها كانت مدعومة من النقابات ومؤسسات المجتمع المدني، فضلا عن القوى الاسلامية الاخرى وقوى اليسار، ناهيك عن قواعد وأنصار حزب العدالة الاسلامي الحاكم. وبذا فإن مسيرة بهذا الحجم المنظم أريد منها استعراض أيضا لقوة التيار الاسلامي، واظهار ما بلغه من قوة متنامية في المجتمع التركي.. وهذه رسالة ليست موجهة إلى النخبة السياسية العلمانية التركية داخل الدولة والجيش والمجتمع فحسب، بل إلى اوروبا، لتأخذ بعين الحسبان من الآن صعود هذا التيار وتنامي حجمه، ولاسيما ان هذه المظاهرة المليونية انطلقت من قلب واحدة من اعرق المدن التركية عرفت بأنها من اكبر معاقل العلمانيين وعلى خط تماس حضاري مباشر مع اوروبا ألا هي «اسطنبول«. الرسالة الثانية: وهي رسالة تتداخل وتترابط مع الرسالة الأولى ومؤداها ان لا مسوغ بعد الآن لاتهام «الاصولية التركية«، وعلى الأخص التي تنتهج الشرعية الدستورية كطريق مشروع للمعارضة والتغيير السياسي، بـ «التطرف« أو «الإرهاب«. فرغم ضخامة المسيرة، ورغم تعدد ألوان الطيف السياسي المشارك فيها، ورغم هتافاتها الحماسية الصاخبة والجريئة، فإنها اتسمت بالهدوء ودقة التنظيم دونما ان يتخللها أي شكل من اشكال العنف والتخريب، وهذا ما يحسب لمنظميها وللمشاركين فيها، وعلى الأخص القوى الاسلامية.
الرسالة الثالثة: لما كان الدور الخلفي الذي لعبه الحزب الاسلامي الحاكم «العدالة« في المسيرة غير خاف على أحد، فقد ارادت السلطة الحاكمة من تلك المسيرة ارسال رسالة لليمين العلماني في تركيا وللغرب في ذات الوقت، وعلى رأسه امريكا، ان مصالحهم وعلاقة تركيا بالغرب ليست بمنأى دائما عن التعرض للاهتزاز، ولو وفق ضوابط محددة ومحسوبة، إذا ما استمر اليمين العلماني داخل الدولة والجيش، وعلى مسرح الحياة السياسية عامة، واذا ما استمر معه الغرب في تجاهل مشاعر الشعب التركي الاسلامية، ومن ذلك الاستمرار في تغريبه عن محيطه الشرقي والاسلامي، وما يربطه به من مصالح جيوسياسية وقضايا مصيرية مشتركة، وعلى الأخص القضية الفلسطينية كقضية تهم كل المسلمين لا العرب وحدهم. ولم يتردد رئيس الوزراء في حديث له مع «الجزيرة« في التلميح بامكانية استخدام ورقة طرد السفير الاسرائيلي في تركيا بعد ان وجه انتقادا قويا عقلانيا ومتوازنا ضد الهجوم الاسرائيلي على غزة. وبمعنى آخر فان هذه الرسالة ارادت ان تقول انه كفى لعملية التغريب المديدة التي سارت عليها الدولة التركية الاتاتوركية العلمانية المتحالفة مع الغرب منذ أكثر من ثمانية عقود متواصلة بإبعاد تركيا ليس عن محيط جوارها الشرقي فحسب، بل عن أهم فضاء اسلامي تاريخي جيوسياسي واستراتيجي ظلت تبسط هيمنتها ونفوذها عليه طوال ما يقرب من اربعة قرون. ولذا فليس خال من الدلالات والمغزى المقصود حينما عمد أحد الخطباء في تلك المسيرة الاسطنبولية الحاشدة تحت المطر وفي درجة حرارة تقترب من الصفر بتعليل ما حدث للعرب من نكبات متعاقبة، زرع الدولة الصهيونية عام 1948 وصولا إلى عدوانها الاخير على غزة، ما كان ذلك ليحدث لو لم يتم اسقاط وتفكيك الامبراطورية العثمانية، على حد زعمه. ومن ثم فان الرسالة ارادت ان تعبر في ذات الوقت عما يداعب الاسلاميين من طموحات وأحلام تاريخية لإحياء مجد الامبراطورية العثمانية الغابر، ولو بدءا من النطاق التركي الحالي كخطوة أولى. الرسالة الرابعة: وهي رسالة تكاد تكون ضمنيا موجهة إلى إيران كدولة فاعلة في البيئة الاقليمية ومفادها ان تركيا تستطيع ان تجذب العالم الاسلامي بوقوفها مع القضايا الاسلامية بخطها الوسطي العقلاني المعتدل والمؤثر في ذات الوقت مقارنة بالخط الثوري الكلامي المتشدد الذي تنتهجه طهران وعلى الأخص رئيسها أحمدي نجاد. ومغزى الرسالة بلا شك ذو دلالات بعيدة المدى إذا ما تذكرنا جيدا ما عاشته الدولتان المختلفتا المذهب تاريخيا من صراع سياسي مذهبي مرير على كسب مناطق النفوذ في المنطقة ابان الامبراطورية العثمانية وقيام الدولة الصفوية في إيران. فتركيا أرادت أن تقول من خلال هذه الرسالة انه ليس صحيحا ان خط طهران الثوري المتشدد هو دائما البديل الذي يمثل خشبة الخلاص لمحن ومآسي العالم الاسلامي. بل انه يوجد خط آخر تمثله تركيا الحالية ويعكس النهج العقلاني المعتدل والمتوازن والمبدئي في آن واحد كما يعبر عنه حزب العدالة الحاكم والقوى الاسلامية الاخرى، وانه اذا كانت طهران رغم صراخ اعلامها الرسمي المدوي في شتم اسرائيل وتهديدها بمسحها بجرة قلم من الخريطة السياسية كما هدد رئيسها قد عجزت حتى الآن عن تنظيم مسيرة واحدة تقدر ولو بمائة ألف مشارك فان تركيا قادرة على تنظيم مسيرة تضامنية مع غزة تربو على مليون محتج، ولا تخلو من البعد الشعبي العفوي بلا اجبار او تحريض رسمي، كما هي في الغالب المسيرات الايرانية المتضامنة مع فلسطين في ظل تفاقم عزلة النظام عن الشعب.
صحيفة اخبار الخليج
10 يناير 2009