المنشور

تجربة السوفيت في هزيمة النازية

كانت الستالينية والنازية متقاربتين في جوانب عديدة من حيث هيمنة الرجل الواحد والحزب الواحد واتخاذ القمع الشامل كوسيلة للحكم، رغم المضامين المغايرة لكلا التجربتين. وما بدا مشتركاً بينهما هو تلك الشمولية لكلا النظامين، رغم التباين التاريخي بينهما، حيث جاءت النازية كتتويج لحكم الاحتكارات وقوى الاستغلال الألمانية المتأخرة في نموها الرأسمالي والسيطرة على المستعمرات، مما جعلها تقوم بعسكرة الحياة الاجتماعية، والدخول في مغامرات حربية على المستوى الداخلي والقاري الأوروبي، ومن دون أن تكون لها تجربة ديمقراطية عميقة كأقطار أوروبا الغربية خاصة إنجلترا وفرنسا. فجاء هتلر تعبيراً عن غياب هذا العمق الثقافي الديمقراطي، واستخداماً لعامية شرسة في إدارة شؤون الرأسمالية الحديثة، فوظف تلك العسكرية المتجذرة في المجتمع الألماني للفتوحات، كما اعتمد على مستوى الصناعة المتطور. في حين جاء ستالين في نظام مغاير، وكان قد أسس مؤسساته السياسية الشعبية في غياب الديمقراطية، فكرس السلطة في مؤسسات الدولة، وغابت الديمقراطية عن الحياة الاجتماعية، وأُبعدت الأحزاب وغُيبت الصحافة الحرة والثقافة الديمقراطية الغربية الإنسانية. كما أن الإجراءات التحولية في الصناعة والزراعة اتخذت طابع العنف، خاصة في المجال الزراعي، حيث أباد ستالين الفلاحين الأغنياء من الريف، لكنه من جهة أخرى وسع الصناعة الثقيلة، فجعل الاتحاد السوفيتي في بضع سنين دولة صناعية مغايرة للطابع القيصري الإقطاعي الزراعي. فعمل النظام السوفيتي على جذب الملايين من البشر إلى قوى الصناعة والتحديث، وأدت المؤسسات المركزية إلى تسارع هذا المنحى الصناعي العلمي. وحين جاء الهجوم النازي على الاتحاد السوفيتي في بداية الاربعينيات كان المجتمع قد أنشأ شبكةً هائلة من المؤسسات الصناعية. لقد بدا للكثيرين أن التشابه الشكلي للمؤسسات الدكتاتورية في كل من البلدين سيكون لصالح الهتلرية ذات المجتمع الصناعي المتطور، التي احتلت أغلب بقاع أوروبا في ذلك الحين، وأعلنت حرباً ايديولوجية على الاتحاد السوفيتي خصمها الحقيقي الرئيسي. وككل دكتاتورية سياسية حاكمة فإن قيادة ستالين كانت فردية مطلقة، وكانت تخميناته وتحليلاته الهزيلة للوضع السياسي الأوروبي هي الموجهة للنشاط الحكومي، فكان قد وقع شراكة مع النازية وقسّم أجزاءَ من أوروبا الشرقية بينه وبين هتلر، فكانت الجبهة الشرقية، الروسية تحديداً هادئة، وكان الغربيون الذين اُحتلت أراضيهم يدعونه لفك هذا التحالف المشين، والانضمام للديمقراطية(البرجوازية). لكن الخط السياسي الذي قاده هو كان يعتمد على تحطيم وإزالة هذه البرجوازية وتقاليدها السياسية، مما كان يضر أبلغ الضرر بمواجهة النازية، رغم نضال القائد البلغاري ديمتروف في رفض هذا التوجه. وهكذا فإن الإشارات التي جاءت من مخبرين سوفيت وخاصة من مخبر في اليابان عرف موعد الهجوم النازي على الاتحاد السوفيتي، قد تم تجاهلها من قبل القائد الكبير، الذي اعتبرها عملية دس غربية.
لكن الهجوم الكاسح الشامل النازي جاء في الموعد نفسه، واندفعت جيوشٌ ألمانية هائلة على الحدود السوفيتية واعتمدت تكتيكات الصاعقة في الاجتياح من الشمال إلى الجنوب، وفي عدة أيام توغلت هذه القوات بقوة في الأراضي السوفيتية، حيث كانت القوات في حالة نوم سياسي وتعرضت للتشتت والانهيار. وقد ارتبك ستالين ارتباكاً كبيراً، وتوارى، ثم ظهر بقوة كشخص بدا مختلفاً عنيداً صارماً كعادته، وفي لحظة تغيرت السياسة السوفيتية، فلم تعد الشيوعية هي مدار الحكم، أو التجربة الاشتراكية، بل ظهرت السياسة الوطنية، سياسة توحيد كل المواطنين ضد العدو والتحالف مع الغرب! وبالتأكيد كانت هذه هي مأثرة ستالين الكبرى، وقد خاض الصراع رغم الأخطاء بكل كفاءة وصلابة، وكان على النظام الشعبي أن يظهر كل قدراته الكامنة المحبوسة في البيروقراطية المسيطرة وكانت تضحياته الجسيمة، وتقديم ثلاثين مليون قتيل لتحرير وطنه وتحرير الشعوب. كان الرفد السكاني الواسع لجبهة القتال متأسساً على هذه الملكية العامة الهائلة، فالملايين في خدمة الدولة، ولم تعد الدولة تريد أغلبهم في المصانع والمزارع، بل تم ترحيلهم للجيوش، وكان على النساء أن يحللن محلهم، وقد أعطى هذا الرفد السكاني الواسع قدرة للجيوش السوفيتية، فمهما قـُتل من طلائع فهناك قوى احتياطية ضخمة في الخطوط الخلفية مستعدة للحلول محلها. كما أن الصناعات تحولت للصناعات الحربية، وتم نقل مصانع بأكملها من غرب الاتحاد السوفيتي إلى شرقه، فتوسعت الصناعات الحربية وتجذرت، وقاربت مستويات الصناعة الحربية الألمانية. كما أن الحزب الشيوعي السوفيتي تحول إلى طليعة حقيقية للجمهور، فكانت أغلبية أعضائه في خطوط القتال الأولى، وقـُتلت نسبةٌ كبيرة منها، وُوظف كل شيء من صناعة وثقافة وبشر من أجل الحرب، وكان الشعار المحوري: كل شيء من أجل الجبهة، كل شيء من أجل النصر! وقد أظهرت هذه السياسة الصارمة جدواها على خطوط القتال، فالتدفق الألماني أوقف ومشى ببطء كبير، واشتعلت خطوطه الخلفية بحرب العصابات، وجسدت المعارك الكبرى مسار نظامين مختلفين، نظام للشعب ونظام معادٍ للشعب، نظامٌ كلما استمرت الحرب ظهرت قواه وتضخمت جيوشه، ونظام كلما طالت الحرب أصيب بالهزائم، والتمزق الداخلي، وقد أدركت القيادة السوفيتية أهمية الحرب الشعبية الطويلة الأمد، ووضع حد للحرب النازية الخاطفة، فجسدت المعارك الكبرى خاصة معركة ستالينجراد قوة هذه السياسة العسكرية، فتواجه أكثر من ثلاثة ملايين إنسان، وتمت هزيمة النازية وصار الجيش السوفيتي هو المهاجم وتم اكتساح أوروبا، في حين كان الغربيون متذبذبين في مساندة الاتحاد السوفيتي، أملاً في تحطيم النظامين أنفسهما معاً.

صحيفة اخبار الخليج
10 يناير 2009