هناك جوانب مشتركة بين المحافظين الدينيين واليساريين والتجديديين بسبب الجذور المتقاربة لكلا الجانبين. فهناك ذكورية مسيطرة في الهياكل السياسية وبين حشود الأعضاء في التنظيمات، فالنساء لا مكان كبيرا لهن في الجانبين، وهناك المرجعية البكائية على الرموز والزعماء، وكذلك التمثيل المحدود للعمال في الهياكل القيادية، أو الغائب كلياً، وغياب الفلسفة والثقافة لدى القيادات والقواعد، وخضوع هذه الجماعات لردود الفعل وغياب الاستراتيجيات البعيدة المدى. بالنسبة إلى حضور النساء وتعددية الطوائف والأديان نجدها لدى الحكومات المُراد تغييرها، أكثر من هذه الجماعات التي تريد أن تغير، فقد قادت الظروف العملية الحكومات، إلى التعامل مع مجموع الشعوب برجالها ونسائها، والاستفادة من كل الطاقات من أجل أهدافها وسياستها، كذلك فهمت طابع العصر حتى لو كان بشكل شكلي في العديد من الأحيان للاستفادة من الذكور والإناث والمذاهب، فيما بدت أحزاب التغيير متجمدة في قوالب، لكونها لم تمارس السياسة الحاكمة وضروراتها، وتلونها واستجاباتها للظروف والتحولات، ولديها (فورمة) جاهزة تعبر عن الكسل العقلي لدى هذه الجماعات وبقاء القواعد في حالة تصفيق وتأييد، ولعدم وجود خبراء يقدمون معلومات موضوعية للأحزاب من أجل أن ترسم سياستها. هنا نجد ان دكتاتورية الحكومات أكثر مرونة من دكتاتوريات الأحزاب المعارضة، لأنها تقوم على مجموعات كبيرة من الخبراء، وعلى برامج متعددة مرنة للظروف، من دون أن تخرج هذه البرامج عن أهداف الطبقات الحاكمة. والحكومات تستفيد من خبرات الأحزاب أيضاً عبر استثمار بعض اعضائها المتحولين بشكل مستمر إليها، فتجد أن أغلب كوادر الحكومات هي من أحزاب المعارضة. وهذا الجمود ينطبق على المحافظين والمجددين، لكونهم يتعاملون مع جماعات ضيقة محصورة، وليس مع تيارات التدفق المستمرة في الحياة، وربما مع زعيم مطلق محدود الإمكانات الفكرية سواء على مستوى الدين أو على مستوى النظرية. إن الجدال مع الواقع، ومع الشعوب، يتقلص لدى الجماعات المعارضة، فهي تظل في منولوج داخلي مع نفسها، وترديد ما تؤمن به من دون بحث عن بدائل وطرق جديدة للتعبير والتفكير، ولهذا فإن التقارب بين المحافظين والتجديديين وارد مستمر، لأن الفريقين لا يشتغلان على تغيير عميق في الحياة، والبنى التنظيمية ليست متغايرة كثيراً، فكلها قائمة على الذكور المسيطرين، مع بعض العادات القليلة المختلفة، وكلها لا تواجه قرارات تحويلية للحياة والتفكير في بدائل وطرق مختلفة للصعاب القائمة، في حين ان الحكومات تواجه ذلك بشكل دائم. وكما يُفترض بأن تكون أحزاب المعارضة هي التي تغير الواقع، لكنها هي التي تتغير عبر السياسات الحكومية، فتصبح أدوات مفيدة للسياسات الحكومية. لا تستطيع الحكومات أن تعيش من دون المفكرين والاختصاصيين فهم يقدمون لها ما يفتقده البيروقراطيون المحنطون في دوائرهم ومراكزهم، والمسؤوليات الجسيمة فيما يتعلق بظروف البلد وتطوراته وأحوال العالم المتغيرة، ويقدم الخبراء مثل هذه الاحتمالات للتطور عبر دراسات متأنية فيها خلاصات عملية لما يجب أن يُجسد على الأرض، وتوضع هذه الاحتمالات والخطط لدى الدوائر التي لديها القرار لتختار ما يناسبها. في حين ان أحزاب المعارضة نظراً لغياب المفكرين والاحتصاصيين فهي تعتمد على العفوية السياسية، فتتخذ قرارات لا تمثل سوى اللحظة الراهنة، فليس لديها بدائل وخطط مدروسة، ولعل الدينيين أقل عناءً في ذلك فلديهم محفوظات جاهزة صالحة لكل زمان ومكان، ويجد التجديديون مثل هذه الجاهزية بعد فترة مع تلكؤ النشاط السياسي وضعف المبادرات ومحدودية العناصر النشطة وقلة التغلغل بين صفوف الناس. تقوم المحفوظات والعادات المحافظة المتجذرة في المجتمع بإحداث تقارب بين الدينيين والتجديديين، فتجد المحافظ يبكي على رمزه الديني وكذلك يفعل التجديدي في بكائه على رمزه، ويتم استعادة التاريخ النضالي بصورة محفوظات، وتتحول إلى محفوظات مقدسة، مع انقطاع الأجيال الجديدة عن التجربة الحقيقية وعن فهمها الموضوعي، ويصبح الماركسي إماماً وشهيداً تحل البركة بترديد اسمه، وتغدو القومية عقيدة مقدسة، لا يأتيها الباطل من خلفها أو من بين أيديها. تصبح الأحزاب السياسية بلا سياسة فعلية، نظراً لغياب أدوات السياسة، فتغدو طوائف جديدة محدودة، في حين تستفيد الحكومات من هذا الضعف، لتتحول إلى هيئات ممثلة للناس ككل، خاصة مع وجود الموارد في أيديها وتوزيعها بطرق تضمن السيطرة لها. والطوائف الجديدة ترتبط بالطوائف القديمة السائدة، فتجد اليساري يمارس عادات المحافظ الديني نفسها الذي ينتقده، فتضيع النوعيات الجديدة في ظل التقليد. وكلها لا ترتبط بمعاش الجمهور والجمهور يمشي حسب من يعطيه معاشه ويطوره، في حين ان الحكومة لا تجعل أحداً سياسياً يسيطر على المعاش غيرها. تقوم الحكومات بتنفيذ ما تقوله الأحزاب فتخطف انتقاداتها وتوظفها وتكون لها شعبية مستمرة، وتحدد البرلمانات والنقابات والجماعات المختلفة. وتقود سيطرة الحكومات وشلل الأحزاب إلى ركود في الحياة السياسية فلا شيء يتغير والجميع يتحدث عن التغيير! لكن الحياة تتغير لكن إلى الأسوأ فهناك المزيد من المشكلات ومزيد من تدفق الفقر والمواليد ومن سوء الأحوال الاقتصادية واشتداد الأزمات وضعف الخدمات وارتفاع الغلاء وتزايد الازدحام والتلوث وتباين توزيع الثروات بين الطبقات والمناطق والطوائف، فمن سوف يحل كل ذلك؟ حين تزور أي بلد عربي تجده في حال أسوأ من السابق، ويبدو هذا مصير بعض دول العالم الثالث العاجزة حكومياً وسياسياً عن فعل شيء حقيقي وكبير في حياة شعوبها.
صحيفة اخبار الخليج
8 يناير 2009