لم يكن الكثيرون يتوقعون أن أزمةً ماليةً عالميةً بهذا الحجم الذي نراه كانت تختمر في القاع، ورغم أن نذرها بدأت في الظهور لكن لم يكن بوسع الجميع أن يتوقع أن تكون لهذه الأزمة كل هذه الآثار المدمرة.
وقعت يدي على دراسةٍ وضعها باحث صيني وهو اليوم أستاذ في إحدى الجامعات الأمريكية، يشخص فيها أبعاد هذه الأزمة وتداعياتها الخطرة، وهي تداعيات لم نلمس منها بعد سوى أول الغيث. أهمية هذه الدراسة أنها وضعت قبل أن تظهر أعراض الأزمة، وما قاله هذا الباحث، ويُدعى مينك لي، يندرج في إطار النبوءات، ولكنها النبوءات المؤصلة علمياً، لأنها انطلقت من مقدمات صحيحة وأفضت إلى نتائج صائبة. لقد جربت الحكومات المعنية حل مشكلة الديون الضخمة للقطاع العام والخاص بزيادة التضخم، أي بمعنى التمويل بطبع النقود، لكن إستراتيجية التضخم سوف تلقي الاقتصاد العولمي في دورات جهنمية من التضخم المفرط ومن معدلات فائدة صاروخية، وبرأي الباحث فإذا لم يكن هناك سوى هذا الاختيار، فعلى الطبقات الحاكمة المختلفة أن تستبعده. وبين عدة احتمالات رجح الباحث حدوث الكساد العالمي وانتشار الإفلاس الذي سيؤدي إلى إعدام الكثير من الديون الخاصة، وهو ما كان يحدث في كل الأزمات التاريخية السابقة للرأسمالية. لأسبابٍ متأصلة في رأس المال الاحتكاري الذي أصبح أكثر قوةً، فان فترة الركود هذه لن تكون عابرة وستمتد إلى فترة طويلة. هذا يقود إلى الاستنتاج بالإفلاس الأيديولوجي والعملي للنيوليبرالية كنهج اقتصادي قام على إطلاق حرية السوق إلى أقصاها وتحريرها من كل الضوابط. واقترن ذلك باستهداف مصالح الفئات الكادحة وتدمير مواقع الطبقة الوسطى ومصادرة الضمانات الاجتماعية في مجال التعليم والطبابة وكافة أشكال الرعاية التي فُرضت على الحكومات وأصحاب الأعمال نتيجة نضالات مديدة خاضتها القوى الديمقراطية والحركات النقابية في البلدان الغربية، وعلى خُطاها سارت شعوب عديدة في البلدان النامية. إفلاس مشروع النيوليبرالية يعني في صورة من الصور فشل المشروع الأمريكي بإقامة إمبراطورية عولمية معتمدة على القوة العسكرية، أُريد لها أن تكون وسيلة لتعظيم الثروات الأمريكية، بإحكام الهيمنة على مقدرات بلدان غنية، وهو ما وجد تجلياً ساطعاً له في غزو واحتلال العراق. وهذا الفشل لا يتجلى فقط في الإخفاقات الميدانية، وإنما في تهاوي الأسس الأيديولوجية و”الأخلاقية” التي سعت الولايات المتحدة لإضفائها على نهجها العدواني، حين اصطدمت بنفور الشعوب والثقافات الأخرى من محاولة التسيد الأمريكي على العالم. ويمكن لنا أن نجد في اعترافات وزيرة الخارجية الأمريكية كونداليزا رايس بمشاعر المرارة والإهانة التي يشعر بها العرب بسبب سياسات بلادها إزاء العالم العربي مظهراً لهذا التهاوي. فلم تُظهر الولايات المتحدة ما يجدر بدولة عظمى أن تتحلى به من مراعاة للخصائص الثقافية في عالم قائم على التنوع والتعدد، لا يمكن تكييفه قسراً على نمط واحد تريد فرضه على الجميع بالقوة الغاشمة.
الأيام 29 ديسمبر 2008