أصيبت بالغرور الجماعات الدينية عندما وجدت جمهوراً غفيراً وراءها، واعتبرت ذلك صحوة كبيرة مؤذنة بانتصار الإسلام التام.
وقد قيم بعض رواد الحركة الدينية، من هم أكثر نضجاً وبُعد نظر ذلك منتقدين وداعين إلى الوسطية وإلى العقلانية وعدم التطرف، من دون أن تتغلغل هذه الأفكار في مجموعات، وهم يدركون أن هذه السمات تنضج وتطور الحركات وتجعلها أكثر فهماً للوضع والغد وأقل تعرضاً للهزائم والتجارة المتطرفة بالدين.
والجمهورُ الغفير الجاهل هو كارثة على الجماعات السياسية، سواء كانت دينية أم غير دينية، وقد سبق للحركات القومية والشيوعية والليبرالية أن تمتعت بمثل هذا الجمهور زمنا ما وبحشود أكثر هولاً، وازدهت به، وافتخرت فأدت أفكارها وجمهورها إلى هزائم ونسيان مرير.
لكن العيب السياسي الأساسي ليس في الجمهور بل في القيادات التي شحنته باتجاه معين، وعبر استثمار عاطفيته وتوجيهها نحو السهم الأقصى.
وهذا قد جرى في كل الحركات العربية السابقة، فليس اللاحق أقل خطأ من السابق، وكل من يعيش فترة سياسية ويرى الجمهورَ الحاشدَ حوله يظن بأن هذا باق للأبد، وأنه سوف يتمتع بامتيازات الغفلة والحماسة الجماهيرية دائماً.
والجمهور هذه هي عاداته حين يجد سياسيا يلوح بمطالبه ويرفع لواء مشاكله يندفع إليه، ويرفعه إلى السماء السابعة، ثم يخفس به الأرض في سنوات لاحقة إذا وجده انحرف عن الطريق ودخل في متاهات سياسية وخلافات وصراعات مضرة بحياته.
ومن هنا فإن التيارات الدعوية الصحوية التي اندفعت بمثل هذا التطرف كأن الدنيا خلت من تجارب سياسية قبلها، وكأن لا أحد ناضل غيرها، فهمتْ نصوصَ الإسلام فهماً خـُيل إليها بأنه الفهم الصحيح، ثم توالت الكوارث بين أيديها ومن حولها، رفعت رؤوسها حين يتفجر صاروخ ويودي بأبرياء، وحين تنقض طائرات على الأبرياء وتترك المجرمين يغزون ديار المسلمين، أو أن يُحكم بلدٌ متخلف بأناس متخلفين يرجعونه أكثر إلى الوراء، ويجعلون ديار المسلمين قواعد مستمرة للأحلاف الغربية، وتكون ثوراتهم وغزواتهم وحكوماتهم كوارث على البلدان الإسلامية.
قالوا صحوة ونوراً ثم تتالت الظلمات، وصار المسلمُ مشبوهاً في المطارات، تـُعرض صورهُ في شاشات التلفزة العالمية بلحى كثة، وغدا هو المجرم المطلوب في الموانئ وعلى السواحل وفي القارات البعيدة، وصارت الأفلام وملصقات الصور تدعو إلى القبض عليه حيا أو ميتا.
والبعضُ يُرجعُ ذلك إلى أن الإسلام سوف يكون غريباً بين أهله في أقصى الزمان كما تأولوا حديثاً شريفاً فهموه بهذا المعنى السيئ.
والبعض الآخر تعجب أشد العجب بأنهم يطبقون الإسلام بحذافيره ومع هذا فإن الكوارث تلاحقهم.
وأرجع البعض الآخر ذلك إلى هجوم الصليبيين الجدد، وأن أهل الدنيا دائماً أقوى من أهل الآخرة.
لم يفهموا أن الإسلام ثورة تحديثية ديمقراطية جرت في أكثر المناطق تخلفاً.
وهذا ينطبق على العلمانيين واليساريين العرب كما ينطبق على الدينيين المحافظين، فالأغلبية تجهل تاريخها، مرة بالإغفال ومرة بالتحنيط.
أما السيرورة الداخلية العميقة، ورؤية كيفية قراءة المسلمين الأوائل لظروفهم المعقدة الشديدة التخلف، ثم تكوين توحيد ثوري مغير يقود إلى نهضة كبرى، فهم ينكرونه أشد الإنكار.
بل تراهم الآن وهم يبتكرون الأشكال الكثيرة لتفكيك عرى العلاقات التوحيدية بين المسلمين، يعودون لميراث الطوائف وكل يوم يدقون مسماراً في نعش الأمم المفككة أصلا، المتباعدة.
وكل فريق سياسي يرى مصالحه، ويبررها بالشرع والفقه، وبخيانة الأنظمة وانه هو المصيب، حتى لو قفز على طائفته التي يتبرك بها سنين طوالا مدعياً أنها الحصن الحصين، ثم نجده قد قفز إلى حلف مذهبي آخر من أجل أن يستمر في حكمه السياسي وفي علاقاته التجارية المزدهرة الرابحة مع الأطراف المخالفة له مذهبيا وتجيره ضد طائفته.
صار التلاعب بالدين مكشوفاً خطيراً، يوجه الناس لزمن مختلف هو الزمن الليبرالي الفوضوي، غير الرشيد، حيث تـُباع العقائد والأوطان والأراضي والأحزاب لمن يشتري، زمن ستجد الفرق السابقة فيه وهي فرق الليبراليين الوطنيين والقوميين والماركسيين، ثم الفرقة الغارقة حاليا جماعات الطوائف، أنها خارج التاريخ.
زمن الليبرالية الفوضوية ينمو في البلدان والحركات الدينية المتشددة، ومن دواخل الأنظمة والحركات المتشددة واللينة معاً، الكبار يغدقون الأموال التي تجعل الرؤوس تنقلب مائة وثمانين درجة، فاليوم هو متشدد يقطع الأيدي والرؤوس وغداً هو الباب المفتوح لكل سلعة مادامت الرشوة موجودة.
البضائع والأموال تنخرُ الدولَ والحركات، وهناك مستويان؛ مستوى شريف عفيف في الظاهر، واحترام للقوانين والضرائب والصلوات والإيمان، ومستوى باطني يحلُ كلَ شيءٍ مادام الدفع متواصلاً، وتتبدل الأفكار حسب كمية الدفع، وستجد كل سلعك بالدولار أو اليورو حسب قوة الغرب المتعددة، وستكون الحكومات هي حكومات العمولة والسيولة لا حكومات العقائد.
وتخترق وسائل الاتصال كل المحرمات والأسوار، والقيود الجمركية والسياسية، وستنهد حكومات شمشون الجبار الذي سيهد كل المعابد فوق رأسه، غير الحكيم، وتفاجأ الأحزاب الغافلة والجماهير الجاهلة، وتصرخ كيف حدث هذا؟
وسيقول الدينيون والتقدميون والليبراليون الذين كدسوا دنانيرهم السوداء لأيام الخيانة البيضاء المنيرة: “لم نكن على غفلة والزمان قد تغير فشدوا الرحال لمبادئ جديدة وسادة جدد نخدمهم بكل إخلاص وتفان”.
أما الفقراء والعمال الذين صدقوا السراب السياسي، وخـُدعوا أكثر من مائة مرة من وعود السياسيين وأكاذيبهم، فسوف يتحسرون لأنهم أضاعوا زمنا مهما، لم يشمروا عن سواعدهم ولم يدافعوا عن مطالبهم الخاصة، ونسوا أن القرش النقابي الأبيض ينفعهم في أيام الأزمات والتقشف وهبوط العملات المستمر الناحت لأجورهم الضئيلة والقادم في تسويتها بالأرض.
أخبار الخليج 27 ديسمبر 2008