شعرتُ بالخجل من نفسي حين تابعتُ حجم الاحتفاء بذكراه من أصدقائه ورفاقه العراقيين، وحتى غير العراقيين. كامل شياع، كيف أبرر لنفسي أنني لم أعرف اسماً بهذه الأهمية، وبهذه الرصانة الفكرية والحس الإنساني العالي، رغم تنوع عطائه وعمقه، إلا بعد أن أودت بحياته رصاصةٌ غادرة.
رفيقٌ له آتٍ من بغداد قابلته مؤخراً قال إنه وآخرين كانوا في انتظاره على موعد غداء على جري عادة أسبوعية ألفوها. حين تأخر في المجيء هاتفوه، ليجيب بأنه في شارع المتنبي، وأنه آتٍ بعد قليل. لكنه لم يأتِ. أيكون القاتل قد تحينه في شارع المتنبي بالذات الذي يقصده المأخوذون بسحر القراءة من أهل بغداد والعراق الذين تحسب لوهلة أنهم وجدوا على هذه الأرض ليقرأوا؟ من مرارة الأشياء أن القاتل يختار لضحيته ليس ميقات القتل فقط، وإنما مكانه أيضاً، فهل اختار هذا القاتل شارع المتنبي بالذات ساحةً لجريمته كأنه أراد أن ينهي حياة ضحيته بقصيدة فيها من الدلالات ما يفيض؟
في بيروت منذ نحو شهرين التقيت سيدةً تمثل وزارة الثقافة حيث كان يعمل مستشاراً، فسألتها عمن تحسب كان وراء قتله، أبدت أسى على رحيل هذا الإنسان الرائع كما وصفته، وقالت إنها لا تستبعد أن يكون القتلة من داخل الوزارة ذاتها.
أياً كان القتلة، فإنهم يمثلون الماضي المظلم بكل ما فيه من سواد. كان يؤرقهم وجود رجل بهذه الرهافة الإنسانية، في رهانه على الثقافة وسيلة تغيير، فاختاروا العادة المعهودة المألوفة عندهم كشهوة الأكل مثلاً: قتله. في “الثقافة الجديدة” التي حملها البريد من العراق طالعت عنه ملفاً، حوى بين ما حوى شيئاً من كتاباته. هالني أنه كان يهجس بالموت، ولأمرٍ ما لم يكن يخافه: ” أعلم أنني قد أكون هدفاً لقتلة لا اعرفهم، رغم ذلك أجد نفسي مطمئناً لأنني حين وطأتُ هذا البلد الحزين سلمتُ نفسي لأمر القدر بقناعة ورضا. القضية بالنسبة لي تعني الحياة وليس الموت”.
كم من الجهد علينا أن نبذل لفهم ما الذي يجعل شخصاً ينعم بهدوء أوروبا ونظامها وحرياتها وتحضرها يخلفها وراءه، ويعود إلى وطن محتل بلغ القاع تتناحر فيه الطوائف. لدى كامل شياع نجد الجواب: ” للعودة من المنفى في حالتي سبب عاطفي أكيد، إذ وجدت نفسي في علاقة لا أقوى على استبدالها أو تعويضها، إنها العلاقة مع الوطن كمجموعة من البشر والتقاليد والأمكنة، كفضاء من ضوء وهواء، من فوضى وخراب وألم، وبعد أن جربت هذه العلاقة صرت متيقناً من جدواها ومعناها بوصفها حقلاً للممارسة اليومية والفكرية”. بل اننا نجد عند كامل شياع توضيحا أهم جدير بالكثير من متحذلقي الثقافة أن يقرؤوه بعناية: “عدتُ إلى العراق بعدما اكتشفت أنني شخص دون مشروع خاص، في السياسة كما في الثقافة، مشروعي مرتبط بالجماعة، فلا فعل ولا حضور من دون مشاركة وتضامن.
الذين خبروا المنفى الطويل يستطيعون أن يحسوا بكل كلمة من الكلمات التالية لكامل شياع: “عدت من المنفى وأنا مدرك أن لا عودة لي منه لأنه يجدد نفسه في كل تماس مع ما هو مألوف أو غير مألوف. كل رجوع عن المنفى تعميق لجذوره وإيهام بخفاياه”.
أي أوجاع سرية يُورث المنفى، أي شفاء يحمل الوطن؟
الأيام 27 ديسمبر2008