لمناسبة صدور الحكم الابتدائي من قبل قضاة محكمة الجنايات الدولية قبل أيام في قضية طلب الادعاء العام للمحكمة من المحكمة إصدار مذكرة اعتقال بحق عدد من قيادات حركة التمرد المسلحة في دارفور، والذي قضى بمطالبة القضاة للادعاء العام تزويدهم بمزيد من المعلومات والأدلة التي تمكنهم من التعامل مع طلبه – لمناسبة صدور هذا الحكم استطلع بعض الوسائط الإعلامية الأجنبية الناطقة بالعربية آراء عدد من الحقوقيين وخبراء القانون الدولي العرب بشأن هذه المسألة، فجاءت ردود بعضهم، كما كان متوقعاً، بعيدة عن التناول الموضوعي المفترض المؤسَّس على الوقائع والقانون.
وكان لابد أن يحدث هذا في ظل السماح لثقافة الفزعة ‘وقوانينها’، ومنها ‘انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً’، بالاستحواذ على الألباب والحواس، والتسليم والخضوع التام لهذه الثقافة المسؤولة عن عرقلة حركة تطور الفكر العربي وانفتاحه على الأفق الأرحب للثقافات العالمية والتلاقح معها، بما قد يفضي إلى ‘تصلب شرايينها’ وتآكل مخزون طاقة إعادة إنتاجها الاعتيادية الجارية.
فلقد ألقى ذلك البعض مسؤولية ما جرى ويجري في دارفور على ‘التدخل الأجنبي’ وحمّله مسؤولية تفاقم الأوضاع سوءاً مع أن من كان يملك ناصية إدارة الصراع، سلمياً وحربياً، هو من يدير دفة الحكم ويملك كل مفاتيح مصادر القوة المتيسرة عادة للدولة الحديثة.
هذا النفر من المحسوبين على قادة الرأي العام في العالم العربي، يعتقد خطأً انه بمثل تلك التخريجات إنما هو يترافع غيرةً وفزعةً عن مصلحة دولة عربية شقيقة ومصالح الأمة العربية بالإجمال، إذ تتعرض لحيف وغبن كبيرين من قوى التجبر والاستبداد.
ففي ذلك تسييس عاطفي بيِّن وغير موفق للموقف، إذ هو يختزل كل تعقيدات الأزمة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والاثنية والثقافية السودانية وملابسات الصراع بين أجنحة الحكم المختلفة والمعارضة، التقليدية والأخرى الجديدة الصاعدة ‘والمتخلقة’ في خزين بيئة الصراع الذي لم يكن بالتأكيد وليد الساعة وإنما هو يمتد لبضع عشرات السنين حين تحول التراكم الكمي لإهمال وتهميش مناطق شاسعة بكامل طاقاتها البشرية ومقدراتها الاقتصادية، إلى حالة نوعية عنوانها التمرد والثورة على حكومة المركز.
فالانتفاض على الأوضاع والتمرد المسلح لم يكن قصراً على دارفور وحدها، فقبل دارفور كان الجنوب، وبعدها اندلعت أعمال تمرد أخرى في مناطق الشمال والغرب. وكل ذلك نتيجة توفر شروط تحول السخط المتراكم إلى حالة ثورية تمردية على الأوضاع البائسة للسكان.
ولاشك أن مما ساعد على ذلك مساحة السودان المترامية الأطراف والبالغة 364,505,2 كيلومتراً مربعاً. تحده مصر شمالاً وارتيريا وأثيوبيا شرقاً وكينيا وأوغندا وزائير شمالاً، وجمهورية أفريقيا الوسطى وتشاد غرباً، وتحده ليبيا من الشمال الغربي.
ليس هذا وحسب، دعونا نسلم أيضاً أن هذه المساحة الشاسعة للسودان، والحديث يدور بطبيعة الحال عن المناطق المأهولة بالسكان، تحتاج إلى موارد إنمائية لتأهيلها حضرياً وتأهيل سكانها معيشياً ليحيوا حياةً كريمة.
كما أن جيرة السودان المنوه عنها عاليه لا تساعده بالتأكيد على إشادة ومراكمة واستدامة خياراته التنموية، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية. فمعظم الدول المجاورة له تعتبر في عداد الدول الفاشلة أو الواقعة على حافة الفشل. وهذه، كما نعلم، تتعيش على الأعمال الواقعة خارج القانون الدولي، من اتجار في البشر إلى الاتجار في المخدرات والأحجار الكريمة مثل ألماس وتهريب والاتجار في الأسلحة. وهي بالتالي لا تتورع عن ‘تأجير’ أراضيها لمن يدفع لتكون نقاط انطلاق لأعمال عدائية ضد بلدان مجاورة أخرى لأسباب مختلفة.
ولكن هل هذا كل شيء؟
كلا طبعاً، وإلا افترضنا غياب الدولة الكلي عن مسرح العمل التنموي وتسليم أجهزتها القيادية والتنفيذية بذلكم الواقع الجغرافي والتضاريسي للبلاد وأيضاً واقعها الجيوسياسي غير المؤاتي. ولم يكن هذا واقع الحال بالتأكيد. فالدولة التي سعت وكافحت من أجل استقلالها الوطني عن بريطانيا لابد أنها كانت تراهن على أداء أفضل في إدارة وتسخير وتطوير طاقات وموارد البلاد.
ولكن هذا لم يحصل، وبدلاً منه انغمست القوى السياسية والاجتماعية التي أدعت أهليتها للتصدي لمهمة قيادة السودان المستقل، في انقلابات وثورات وانتفاضات وحروب أهلية ليس لها أول ولا آخر. وكان ذلك كافياً ليس لتخلف وبؤس الأقاليم البعيدة وإنما تدهور وتواضع البنية الأساسية للمدن الكبرى الرئيسية ومنها العاصمة الخرطوم.
وبهذا المعنى فقد قدم السودان أحد أسوأ نماذج الإدارة التنموية في العالم العربي وذلك على الرغم من توفره على إحدى أفضل الكفاءات والكوادر والمواهب العلمية والإدارية في عالمنا العربي والتي لم تمكنها الإدارات التنموية الفاشلة والمتعاقبة على السلطة في السودان، من تسخير علمها وطاقاتها في خدمة مسارات التنمية في بلادها فاضطرتها الظروف للهجرة والتغرب في مشارق الأرض ومغاربها. السودان كان يمكن أن يكون دولة إقليمية رئيسية ومحورية في القارة الأفريقية لو أخلصت زعاماته السياسية لوطنها وشعبها وأحسنت إدارة موارده وطاقاته.
ولكن هذه الزعامات آثرت الإخلاص لطوائفها وقبائلها ومصالحها الفئوية والشخصية، فكان لابد وأن يجيء الحصاد الكلي والجزئي بائساً على النحو الشاخص للملأ اليوم.
لما كان ذلك فإنه ليس من الحصافة والموضوعية في شيء إلقاء اللوم فيما ‘نزرعه’ على الآخرين بطريقة تنم عن التقاعس الفكري وعدم الرغبة في تحمل مشقة إعمال التفكير والتبصر في الوقائع، المتاحة على أية حال.
أيضاً فإن هذا الدأب الممل على إلقاء تبعات إخفاقاتنا على مشجب ‘التدخل الأجنبي في شؤوننا’ ما هو في حقيقة الأمر سوى إقرار ضمني، ولكنه صريح، بالعجز، ورسالة لكل من يهمه الأمر مفادها عدم الجدية وعدم توفر الاستعداد لإصلاح الاختلالات والمشاكل المتولدة عنها.
الوطن 27 ديسمبر 2008