ليست المرة الأولى ولن تكون الأخيرة التي نرى فيها مشهداً لافتاً مسكوناً بقدر غير قليل من الشعور بالذهول والدهشة والمرارة لأن أبطاله أطراف رسمية تقاذفت فيما بينها المسؤولية وتنصلت منها بجرأة لافتة بلا ضابط أو رادع، فما يجري الآن من تباينات حادة وقاطعة في المواقف المعلنة، والاتهامات المتبادلة بين عدة جهات رسمية والتي حفلت بها الصحف المحلية في الأيام الماضية على خلفية ما عرف بقضية “قناة الموت”، أو “قضية قناة مهزة” في سترة، التي أدت إلى وفاة طفلين غرقاً فيها، سبق أن شهدنا مثله أكثر من مرة احسب أبرزها ما تمثل في تداعيات كارثة غرق سفينة الدانة التي كانت هي الأخرى قد عبرت عن خلل جسيم في معنى ومفهوم المسؤولية، وبينت عن عجز من العيار الثقيل في تحمل أعبائها ممن يفترض أنهم يحملون أمانة المسؤولية، تماماً كما هو الحال بالنسبة لكارثة حريق القضيبية المروعة التي أدت إلى مقتل 16 وإصابة 17 من العمال الآسيويين، وهي وغيرها قضايا وملفات لا تستطيع ذاكرة المرء أن تنساها مهما مر عليها من زمن، خاصة أنها هزت وجدان المجتمع البحريني، ولازالت تطرح أسئلة مهمة.
لسنا هنا في صدد الخوض في التفاصيل وسرد الحيثيات والوقائع في شأن القضية المثارة الآن بين وزارة البلديات، وإدارة الثروة البحرية، والمجلس البلدي بالمحافظة الوسطى، ودخول نقابة الصيادين طرفاً في الموضوع فكل ذلك بات منشوراً ومعلوماً، ولن نقف عند من هو المتورط الحقيقي في القضية!، وكيف حدثت الكارثة الجديدة ؟!، كما لن نقف عند ذلك القدر الكبير من الفجاجة في الاتهامات التي تم تبادلها علناً بين بعض أطراف القضية، وهي اتهامات لا ينبغي أن تحاصر بالصمت، بل تستدعي استنفاراً يقيم الدنيا ولا يقعدها لو كان هذا الذي حدث في بلد آخر، خاصة وأن أطراف القضية يشغلون مناصب عامة، تبادلوا فيما بينهم اتهامات بغض النظر عن أنها ثبتت أو لم تثبت فذلك لن يغير من الفكرة التي نحن بصددها، فبإزار الاتهامات هو من النوع الذي احتوى على مفردات من نوع ” تداخل المصالح، وتورط جهات رسمية ومكاسب نيابية، وتصفية قضايا خاصة وشخصية ودفان عشوائي، وذهبت الاتهامات إلى ما هو أبعد بالإشارة إلى أعمال غير قانونية وعلاقات غريبة افتقدت لأي شفافية، وتزوير، وعريضة وهمية واستغلال النفوذ، أو إستقواء ببعض ذوي النفوذ، وتهديدات للمفتشين، وإهدار قيمة القانون”، وذلك ليس أخطر ما في تلك الاتهامات التي جاءت بالطول والعرض، لأن الأخطر في ظني ذلك الاتهام من أن القناة تستخدم للتهريب، وتهريب المخدرات تحديداً.. !!
تلك من دون شك اتهامات تقتضي من الجميع، الجهات المسؤولة، ومنها النيابة العامة، ومجلس النواب، وبالأخص لجنة التحقيق النيابية المعنية بهذا الملف، تقتضي أقصى درجات الانتباه والبحث والتحقق والحسم بشكل لابد أن يضع النقاط على الحروف ويدفع الأمور إلى نصابها الصحيح. هذا أولاً..
ثم لابد مرة أخرى وثالثة ورابعة وأكثر أن نؤكد بأن ما جرى يستدعي التشديد على الحاجة الملحة لبث روح جديدة لمعنى ومفهوم المسؤولية وكيفية النهوض بها، وجعلها تقترن بمنظومة المساءلة والمحاسبة، وعلى الجميع الإدراك بأن الدولة التي تعي معنى المسؤولية، وتضع المؤهلين القادرين على تحملها، والمدركين لتبعاتها، والذين يكبرون فيها وينهضون بها وبواجباتهم، وليس لهم همّ الا جعل دولتهم دولة قانون ومؤسسات وعدل ونظام وتكافؤ فرص وأخلاق وعدالة وفكر وإنتاج وإنجاز هي الدول التي تتقدم وتتطور، ومن هذه الزاوية لابد أن نضع أيدينا بمنتهى الجدية والحسم على مواضع الخلل في واقعنا، وما قضية “قناة الموت”، وكارثتي “سفينة الدانة”، و”حريق القضيبية”، وحتى ما بات يعرف بحادثة دوار 19 بمدينة حمد، وغير ذلك من القضايا ما هو إلا انعكاس أو ترجمة لبعض الأوجه السلبية في هذا الواقع الذي لازال فيه من يصر على العمل خارج حدود دولة المؤسسات وخارج نطاق سيادة القانون. هذا ثانياً..
وثالثاً نقول، إن المشهد يأتي في وقت باتت فيه البحرين تتبنى أخيراً رؤية تنموية واقتصادية حتى عام ،2030 تستهدف عبر عدة محاور نهوضاً بالعمل التنموي والاجتماعي والاقتصادي، ولكن اذا استمر هذا النهج في التعاطي مع إدارة الشأن العام، وبقينا نستهين ولا نعلي قيم احترام المسؤولية العامة ومعاني الانضباط والالتزام بالقانون فإن تحقيق هذه الرؤية لن يكون يسيراً على الإطلاق.
وأخيراً نقول:
ترى لو كنا نساءل ونحاسب بمعيار المسؤولية الحقة بأبعادها الحقيقية وتعاملنا مع المسؤولية باعتبارها قدرة على العمل الخلاق، كم مشكلة ستحل؟
وكم كارثة كان يمكن تجنبها؟
وكم تراشقات بالتهم والادعاءات والمغالطات تفادينا؟
وكم انتهاكات للقانون والتحايل عليه والعبث به انتهينا منها؟
وكم من مسؤوليات أصبحت عبئاً ثقيلاً على المجتمع سنكون في منأى عنها؟
وكم من المسؤولين الذين مارسوا العدوان الصارخ على المال العام حاسبنا؟
وكم من العقليات التي تشد نا إلى الوراء بدلاً من أن تدفعنا إلى الأمام تخلصنا؟،
وكم من أعمال تدخل في نطاق مسؤوليات كثيرة غاب عنها الضمير توقفنا؟
وكم من الشطط في إدارة الشؤون العامة تجاوزنا؟
وكم انجازات مفترضة تحققت؟!!
أسئلة تبحث عن إجابة..
ألأيام 26 ديسمبر 2008