هشاشة الهياكل (الديمقراطية) في العالم الثالث واضحة جلية، فهي تعتمد على إرادة حاكم يتطلع لتغييرات إيجابية، وتبدل صفحة الماضي، ومواكبة دول العالم المتحضرة حتى لا تكون بلاده عرضة للاضطرابات والعقوبات والتدخلات، وقد تكون مجرد تلاعب بسيط من قبل الطبقة الحاكمة لتهدئة نزاعاتها وتقاسم الحصص وعدم السماح للأحزاب المعارضة لكيان البلد في الانتشار وقد تكون تراكما موضوعيا كما هو الحال في أمريكا اللاتينية التي وصلت شعوبها إلى مستوى متقدم مقارنة بدول العالم الثالث الأخرى، نظراً لتجذر الأحزاب الوطنية واليسارية بين الجمهور العريض، أو قد تكون عملية خداع كبيرة تقوم بها الطبقة الفاسدة البيروقراطية للحفاظ على سيطرتها على الأملاك العامة كما هو الشأن في روسيا.
ورغم تقدم روسيا الكبير على الصعيد الاقتصادي فإن ذلك كان بلا تقاليد ديمقراطية، وهو أمرٌ لا يحدث إلا بأن تظهر قوى سياسية علنية تمارس المعارضة مدة طويلة، وتشكل علاقات قوية مع الشعب، ولهذا فإن عقلية الاستبداد ومناخ الطاعة لأولي الأمر وسيطرة الشعارات الدينية – الحديثة الشمولية تهيمن على الرأي العام كما هو الشأن في إيران وسوريا وليبيا وغيرها فلا تكوّن ديمقراطية. إن الديمقراطية تحتاج إلى تحضير طويل بين الجمهور العادي الأمي، أساس الشعب في العالم الثالث، بأن يزيل خوفه من الدول ومن شيوخ الدين ومن رجال السياسة المتسلطين، وأن يمتلك الجرأة على نقدها، ومعرفة مصالحه المستقلة، وأن تكون ورقة الانتخاب خاضعة لمصلحته المستقلة وإرادةً لتطوير هذه المصلحة باتجاه رقي وتنور الشعب. أي أن يكون الشعب علمانيا بدرجة أولى، ويدرك أن حبه لدينه أمر مختلف عن قضايا السياسة، فقضايا السياسة تخضعها الأحزاب لمصالحها الذاتية الخاصة، وهي تستعمل الكثير من شعارات الدين والدنيا لمصالحها وصعود جماعاتها، والعملية الديمقراطية تتطلب برامج للتغيير محسوسة في حياة الناس معدة بشكل خطط وبرامج في حال وصول هذه الأحزاب إلى البرلمان. ولا تستطيع الأحزاب أن تقوم بذلك إلا إذا كانت أحزاباً علمانية، أبعدت المذهبية والدين والقومية عن برامجها، فبرامجها تخص تطوير معيشة المواطنين والمهاجرين على أي مذهب أو دين أو قومية يكونون. حتى هذه البرامجية العلمانية المجردة من كل هوى مذهبي أو قومي، تحتاج إلى سنوات من أجل تفهم الواقع وتدرك الطرائق لتغييره ورفع معيشة الناس وحفظ سلامتهم ماداموا يسكنون هذا البلد أو ذاك. ولابد من صراع طويل بين البرامج الحديثة (الرأسمالية الخاصة) و(الإقطاع) و(العمال)، وهي القوى الثلاث الأساسية المتحكمة في أموال الدولة وعملها في العالم الثالث، أي المتحكمة في خبزها وزيتها ولحمها. فالديمقراطية ليست حرباً ضد الدين أو معه، ولكن هي تشكيل لعلاقات سياسية بين الطبقات الكبيرة المتصارعة حول الملكيات والأجور والدخول وسياسات الادخار والتأمين وسياسة البيئة والهجرة الخ. إن العلاقات السياسية التي تجرى من وراء كواليس الدين والمذاهب والقوميات، وتسبب الحروب بينها، تتأطر في الديمقراطية وتصبح صراعاً بين من يملكون ومن يعملون وتحدث تطورات بين هذين البرنامجين الأساسيين.
أي أن الصراع الديمقراطي العلماني يدور حول المصالح، وليس حول أن هذا المذهب أفضل من ذاك، ولا أن هذا القسم من المواطنين له الدرجة المميزة في الجنة. إن انتقال الأحزاب والجمهور للعلمانية الديمقراطية مسألة تتعلق بمثل هذا الصراع، وبتغيير الهياكل السياسية في كل بلد تجرى فيه مثل هذه العملية التحولية. فماذا أعدت الأحزاب لتغيير المدن؟ وما هي سياستها في الهجرة؟ وما هو برنامجها البديل لوزارة العمل؟ وكيف تريد تغيير الشوارع والجغرافيا الوطنية؟ كان السكان في أمريكا اللاتينية يشتبكون حول المذهبين البروتستانتي والكاثوليكي وحول من هو الأمريكي الأصلي، الأسباني أم الهندي الأحمر، وكل هذه الخزعبلات، لكنهم الآن يختلفون كمواطنين وكطبقات كل له برنامجه لإدارة الأملاك العامة وتنظيم أسواق العمل وسن قوانين التجارة وغيرها. وقد عملت الأحزاب في هذه القارة التابعة للحضارة الأوروبية عامة عبر عقود طويلة من العملين السري والعلني حتى ترسخت كأحزاب تمثل المواطنين، فالحزب الذي كان يمثل الهنود الحمر صار للمواطنين كافة، نظراً لرقي الثقافة عند المواطن العادي وتضاؤل تعصبه للقبيلة والمنطقة. وبهذا فإن الديمقراطية نشأت في القواعد الشعبية أولاً، حين رأى ملاكُ الأراضي أن مصالحهم ستتبع تنظيم حزب موحد لهم، ورأى التجار والصناعيون مثل ذلك، وكذلك رأى العمال، وبهذا فإن الهيئة الاجتماعية الوطنية وممثليها حولوا صراعاتهم في الغابات والمدن بالأسلحة وبحروب العصابات الطويلة إلى حوار مصالح واتفاقات داخل مجالس تشتغل لتغيير القوانين والظروف كلٌ من موقفه ومصلحته وهذا رغم تشعبه وصعوبته ومرارته، أفضل من استخدام قوة النيران في العمل السياسي. هذا يعتمد على ظهور ممثلي القوى الأساسية هذه، لكن إذا ظلت جماعاتُ البرجوازية الصغيرة تصرخ وتشعلُ الجملَ الثورية كل ساعة، وهي لا تمثل أي طبقة رئيسية، بل تتراقص فوق حبال السياسة من يمين إلى يسار، وتجعجع بالمفردات الدينية والقومية، وكل يوم لها موقف، فإن صراع المذاهب والمناطق يغدو هو السائد. ومن دون حدوث هذا المناخ المؤسس للديمقراطية فإن الدول وجيوشها خاصة تظل هي المتحكمة في هذه اللعبة السياسية، وتظهر لها في كل فترة (ديمقراطية)، فمرة هي التي تعمل من أجل الديمقراطية ومرة أخرى هي التي تضع حداً لفساد الديمقراطية، ومع موت قائد الديمقراطية يظهرُ قائدُ الجيش منقذ الديمقراطية الذي يمنع الفوضى. وهكذا نرى تفجر الانقلابات في بقع كثيرة، ويجد البرلمانيون المسترخون في مقاعد الحروب الكلامية أنفسهم فجأة في السجون، ويعبرُ رئيسُ الجمهورية المقال عن آرائه في قريته المحاصرة بالدبابات. حين يبذل التجار والصناعيون والمقاولون جهوداً وقوة اقتصادية وسياسية على إنشاء أحزاب جماهيرية وتكوين برامج تحفظ مصالحهم على المدى الطويل، وحين يبذل العمال وممثلوهم مثل هذه الجهود في التعلم ودراسة السياسة والاقتصاد بدلاً من الثرثرة ولعب الورق، ويجد ملاك الأراضي والعقارات أن تكوين حزب يحفظ مصالحهم وأن يشتغلوا بالسياسة المستقلة الخاصة من فوق الطاولة لا من تحتها يدبرون المكايد وبناء الضرائح والمقامات، فإن الديمقراطية وقتذاك تتشكل، وتغدو لهذه القوى الاجتماعية الكبيرة سياسات تطوير للمجتمع وللخريطة الفعلية على الأرض لا في الأحلام الضبابية. أي حين تحدث الانتخابات على أساس موضوعي وطني لا أن تـُسرق مقاعد الدنيا والآخرة لجماعة.
أخبار الخليج 26 ديسمبر 2008