قضيتُ أياماً ثلاثة رائعة في الكويت الشقيقة بدعوةٍ من مركز الحوار للثقافة، وهو تجمع لعددٍ من الشباب المفعمين بالحيوية والحماس والرغبة في العمل بأفق تغييري. مناسبة الدعوة هي احتفالية عن التنوير أقامها المركز لمدة يومين، خُصص يومها الأول لمحاضرة قيمة قدمها المفكر الجزائري المقيم في باريس محمد أركون عن فكرة التنوير، ليس بوصفها فكرة مجردة، مطلقة، وإنما بالسعي لـ »تجليسها« في واقعنا العربي- الإسلامي. وكالعادة فان محمد أركون انطلق من عدته المعرفية – الفلسفية العميقة في مقارباته للموضوع، فهو أولاً يمسك بناصية الفكر الإسلامي، تاريخاً وراهناً، وهو إلى ذلك ينطلق من تكوين عصري، جَذَرتهُ المثاقفة العميقة التي ساعد فيها وضعه الأكاديمي في فرنسا. أما في اليوم الثاني فقُدمت شهادات عن واقع التنوير في بلدان الخليج، من خلال ورقتين قدمهما د. أحمد البغدادي من الكويت و د. توفيق سيف من المملكة العربية السعودية، إضافة إلى مداخلات لكل من د. سعد البازعي من السعودية و د. عبدالحميد الأنصاري من دولة قطر، ومني شخصياً. الاحتفالية ابتدأت برسالة من الشيخة مي بنت محمد آل خليفة وزيرة الثقافة والإعلام ورئيسة مجلس أمناء مركز الشيخ إبراهيم الخليفة للثقافة والتراث في البحرين، ألقاها بالنيابة الأخ علي الديري، أكدت على الوشائج التي تجمع بين حَملة فكرة التنوير في هذه المنطقة. وفي يومي الندوة غَصتْ قاعة الجمعية النسائية الثقافية التي أقيمت فيها الاحتفالية بالحضور الكبير، حيث كان بوسعك أن تشاهد فيها وجوه الكويت النيرة في الحقول الثقافية والإبداعية والأكاديمية، فضلاً عن الشخصيات الوطنية البارزة وفي مقدمتهم د. أحمد الخطيب. ليس غريباً أن تكون الكويت بالذات هي من شهدتْ هذه الاحتفالية عن التنوير، بالنظر إلى تراثها التأسيسي، على مستوى المنطقة، لفكرة التغيير والإصلاح والتنوير، ويمكن رصد الكثير من أوجه بدايات الحداثة الفكرية والسياسية في هذا البلد الشقيق، وهي بدايات عَبدتْ طريقاً غير مأهول قبل ذلك. لكن ما يُكسب هذه الاحتفالية أهميةً إضافيةً هو التوقيت الذي تنعقد فيه، حيث تجتاح المنطقة غلواء أصولية تستهدف قيم الحداثة الفكرية والسياسية في بلداننا، وتبدو الكويت واحدةً من ساحات تجلي هذه الغلواء، وهي غلواء لا توفر مجتمعاً من مجتمعاتنا وإن يكن بنسب مختلفة، تبعاً للخصائص التاريخية وقدرات القوى الحديثة وحجم تأثيرها. لذلك يُكبر المرء لمجموعة الشبان المتحلقين في مركز الحوار للثقافة ليس فقط تنظيمهم لهذه الاحتفالية وإنما لمجمل العمل التثقيفي الذي يقومون به على شكل إصدارات وكتيبات تعريفية تربوية تُعيد الاعتبار لقيمٍ يُراد طمسها، نابعة من تراث التنوير الإنساني ومن تجلياته في بلدان المنطقة. وعلى خلاف ما يبدو في الظاهر من أن هؤلاء يسبحون ضد التيار الجارف الذي يكتسح المنطقة، فان جهدهم الكبير يأتي منسجماً مع الأفق المستقبلي، الذي يجب على مجتمعاتنا أن تسير نحوه، موضوعياً، إن أرادت أن يكون لها مكان تحت الشمس، وهو إلى ذلك جهد ينسجم مع ميراث محلي في بلداننا الخليجية، يُقابله البعض بالجحود، فيما هو قمين بأن يُضاء، وأن تعرفه الأجيال الجديدة لتواصل البناء عليه. للحديث تتمة.
صحيفة الايام
24 ديسمبر 2008