المنشور

مواجهات على أرض الإلياذة

في مقالنا في 8 ديسمبر/ كانون الأول ، ذكرنا أن في الأنظمة الأقل تطورا تصبح القوى الحاكمة أكثر مهيأة لمزيد من انتهاكات حقوق الإنسان ومصادرة مكتسبات الشعب لكي تعالج آثار الأزمة المالية الاقتصادية العالمية في بلادها لمصلحة القوى المتنفذة على حساب فئات الشعب الأدنى. وهذا يلاقي مقاومة شديدة من الناس، وبذلك تزداد الأوضاع السياسية تعقيدا. اليونان من بين أقل دول الاتحاد الأوروبي تطورا. وقبل وأثناء مخاض تشكل الاتحاد الأوروبي طالما نعتت بأنها ‘قرية أوروبا’. والآن فإن ما تنقله الأخبار عما يجري في بلاد الإلياذة ( اليونان) هذه الأيام يعني تجسيدا حيا في الواقع لما ذكرنا. غير أن اليونان مهد الديمقراطية تاريخيا لا تزال تضم قوى ديمقراطية عريقة تناضل من أجل أن تسير البلاد وفق خيارات غير خيارات الحكم الحالي.
واليوم، أكتب لكم من العاصمة اليونانية أثينا، حيث تشهد، مثلها مثل سائر مدن اليونان ذروة موجة الغضب الجماهيري رافضة ليس إجراءات السلطات الاقتصادية والقمعية فقط، بل ومطالبة برحيل حكومة حزب ‘الديمقراطية الجديدة’ برئاسة كرامانليس الذي يتمتع بأغلبية صوت واحد في البرلمان. إن غالبية أهل اليونان تنظر إلى الأحداث الأخيرة بصفتها حركة احتجاج اجتماعي وليس تمردا تنظمه مجموعة من الفوضويين كما تشيع وسائل إعلام الحزب الحاكم. هذا ما وصلت إليه نتائج استطلاع للرأي أجرته صحيفة ثفُّوىٍمْىَى اليونانية. وهذا كان مضمون ما حدثني به أحد الدبلوماسيين في أثينا والذي عايش تطورات الوضع على مدى العامين الماضيين مبديا دهشته من حسن تنظيم قوى المعارضة، سواء في انتقائها الدقيق للأهداف التي تهاجمها كالمصارف الكبرى والشركات الأميركية والمتعددة الجنسيات ومؤسسات الحزب الحاكم ومكاتبه ، دون أن تمس المؤسسات الوطنية الأخرى بأذى، أو في محاولاتها منع اختراقات الفوضويين الذين نجحوا في حالات قليلة في تشويه نضالات الشبيبة والطلبة وتلاميذ المدارس وآبائهم. لم يخف هذا الدبلوماسي في نفس الوقت إعجابه بالطريقة التي تدير بها السلطات أزمة الصدامات الراهنة محاولة استيعابها. غير أن الحركة الاحتجاجية في اليونان أصبحت تجد صداها الواسع وتستدعي التضامن معها في عواصم أوروبية أخرى من روما إلى مدريد ومن موسكو إلى باريس لتتحول هذه الأخيرة وبتسارع إلى حركات احتجاجية ضد طرق معالجات آثار الأزمة العامة على بلدانها. وكما تروي قوى المعارضة اليسارية هنا فإن الحركة الاحتجاجية في اليونان بدأت في التصاعد منذ مارس الماضي. ففي 19 مارس قادت النقابات إضرابات واجتماعات ومظاهرات جماهيرية واسعة شملت 64 مدينة يونانية شارك فيها مئات الآلاف من العمال ضد توجهات إقرار قوانين التأمين والخصخصة بالضد من مصالح العمال. وفي يونيو/ حزيران الماضي حدا طلاب الجامعات والكليات حذو النقابات العمالية فهبوا ضد ‘قانون التعليم’ الذي كانت تنوي حكومة كرامانليس اليمينية تمريره عبر البرلمان بهدف خصخصة التعليم وإلغاء حق الجامعات في التسيير الذاتي وربط التعليم بمتطلبات السوق ( من وجهة نظر أرباب العمل) لأعمال رخيصة الأجر، مرنة وخطرة. وقد بلغ الاحتجاج الطلابي في ذلك الشهر مداه عندما سيطر الطلاب على 396 من بين 450 كلية تضمها الجامعات ونظام التعليم اليوناني.
ومنذ بداية الشهر الحالي ديسمبر فقد صبت نضالات مختلف الطبقات والفئات الاجتماعية في مجرى النضال الوطني العام لاستنهاض الجماهير من أجل إفشال البرنامج المعادي لمصالحها وصولا إلى إسقاط حكومة هذا البرنامج نفسها. وعندما عمدت الحكومة إلى تصعيد قمع الانتفاضة الجماهيرية فأردت في 6 ديسمبر/كانون الأول ألكسندر غريغوبولوس، وهو طالب في الخامسة عشر من العمر قتيلا، اشتعل الغضب الجماهيري ليزداد تصميما على مواصلة الانتفاضة. ومن بين أكثر المواقف تعبوية جاء بيان اللجنة المركزية للحزب الشيوعي اليوناني في 9 ديسمبر ليؤكد على ‘عدم تأجيل النضال الشعبي وحسن تنظيمه وحمايته’، وإن من المطلوب تطوير أشكاله عن طريق العمليات الجماعية والمسؤولية الكفاحية وبواسطة اشتراك الشعب، وإن على الشغيلة أخذ زمام المبادرة في أيديها بدون تباطؤ. وناشد بأن تصبح أماكن العمل، المصانع، الفروع الصناعية، مشاريع البناء، المحلات التجارية الكبرى، المؤسسات التعليمية، المجمعات السكنية خلايا لانبعاث تطور الحركة العمالية والشعبية عموما.
وفي محاولة لتخريب العملية النضالية وتشويه سمعة المناضلين استخدمت الحكومة ما درج المواطنون على تسميته بالقسم الأعمى من السكان، وهم مرتدو الأقنعة الذين يندسون بين صفوف الجماهير ويعملون تخريبا وإرهابا، بما في ذلك محاولة قتل فتى آخر قبل يومين. لقد نشأت نواة ‘الناس المقنعين’ في أحشاء الدولة من خلايا من داخل وخارج اليونان سواء أيام حكومات الباسوك أو الديمقراطية الجديدة. وكما يحدث دائما في هذه الحالات وفي مرحلة معينة يمكن أن يخرج المقنعون عن نطاق سيطرة من أوجدهم.
ومع ذلك دخلت الانتفاضة اليونانية أسبوعها الثالث، وهي في تصاعد مستمر وتعد بأن تتواصل حتى العام القادم أو أن تجبر الحكم على الانتخابات المبكرة. لقد تحول الموقع الذي سقط فيه الفتى ألكسندر مركز انطلاق لهجمات مستمرة ضد الشرطة، وأصبحت كلية البوليتكنيك أحد المواقع الرئيسية بيد الاحتجاجيين إلى جانب أكثر من 850 مدرسة ومئات الكليبات والمواقع الأخرى في مختلف أنحاء اليونان.
ما الذي يريد المنتفضون تعطيله على وجه السرعة؟ إلى جانب قوانين التعليم والخصخصة الجائرة فإن من بين أهم الأمور تعطيل مرور مشروع الموازنة العامة التي تحمل الجماهير مزيدا من الأعباء وتخففها عن الأغنياء، والحيلولة دون صفقة بيع أملاك هامة للدولة لمصلحة الأديرة القريبة الصلة بالحزب الحاكم.
أما سياسيا، فهذه الانتفاضة لا تستهدف حزب الديمقراطية الجديدة الحاكم فقط، بل وكل نظام التدوير الثنائي الحزبية بين حزب اليمقراطية الجديدة والباسوك (الحزب الاشتراكي اليوناني)، اللذين يرى الشيوعيون وقوى يسارية أخرى ضرورة تلقينهما درسا نهائيا في الانتخابات القادمة.

صحيفة الوقت
23 ديسمبر 2008