جاء تأسيس منظمة العفو الدولية التي اتخذت من لندن مقرا لها في أوج مناخ الحرب الباردة المستعرة بين المعسكرين الغربي بقيادة الولايات المتحدة والشرقي بزعامة الاتحاد السوفييتي حيث كانت هاتان الدولتان العظميان هما المهيمنتان على النظام الدولي الثنائي القطبية، الذي ساد الساحة الدولية طوال ما يقرب من نصف قرن منذ انتهاء الحرب العالمية الثانية عام 1945 حتى انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991، ولم تكن “العفو الدولية” طوال هذا النزاع بين المعسكرين خلال تلك الفترة الطويلة بمنأى تام عن ذلك المناخ، بمعنى انها لم تتمكن من ان تتخذ لها سياسة مستقلة محايدة ونزيهة تماما تجاه دول المعسكرين، إذ غلب على مواقفها المنددة بانتهاكات حقوق الانسان في كثير من الاحيان طابع التسييس بالتركيز على أوضاع حقوق الانسان في دول المعسكر الشرقي وحلفائه في دول العالم الثالث أكثر من التركيز على أوضاع حقوق الانسان في المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة، ولاسيما انها اتخذت كما ذكرنا من لندن عاصمة الدولة الغربية الرأسمالية الاكثر تحالفا مع الولايات المتحدة ثنائيا وعلى مستوى حلف “الناتو” مقرا لها.
وفي ظل مثل هذا المناخ من الحرب الباردة بكل غيومها وسماتها التي طبعت مرحلة بكاملها من تاريخ العلاقات الدولية المعاصرة، بدا اختراق هذه المنظمة العريقة المدافعة عن حقوق الانسان والتأثير على مواقفها وسياستها من قبل نشطاء حقوقيين غربيين مجندين لخدمة سياسات أمريكا وحليفتها بريطانيا والمعسكر الغربي عامة أمرا مفروغا منه ولا يحتاج إلى برهان.
أما بعد انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي وتسييد النظام القطبي الاحادي القطبية الذي تربعت على عرشه الولايات المتحدة وفي ظل هبوب رياح التغيير العالمية الداعية والرافعة لشعارات حقوق الانسان واقامة الانظمة الديمقراطية الدستورية القائمة على التعددية السياسية والحريات العامة، والفصل بين السلطات واستقلالية القضاء.. الخ، وفي ظل كذلك افتضاح السياسات الخارجية الامريكية وتورطها في نزاعات وحروب مارست فيها أفظع ممارسات انتهاكات حقوق الانسان كما في العراق وأفغانستان وسجني جوانتنامو بكوبا و”أبوغريب” السيئي الصيت.. فقد انعكست هذه التغييرات والتحولات العالمية على انتهاج سياسات ومواقف أقل انحيازا للغرب داخل منظمة العفو الدولية وأقرب الى التوازن والحياد والشفافية في مواقفها مع انتهاكات حقوق الانسان في مختلف دول العالم كبيرها وصغيرها وعلى اختلاف أنظمتها الاجتماعية، وكان نصيب الولايات المتحدة كبيرا من تقارير وبيانات المنظمة المنددة بانتهاكاتها لحقوق الإنسان والتشهير بها والمطالبة بالتحقيق فيها، وعلى الاخص بعد ان تولت منصب أمانة منظمة العفو الدولية السيدة البنغالية ايرين خان منذ مطلع العقد الحالي، وكانت بذلك أول امرأة آسيوية وأول مسلمة تتولى قيادة هذه المنظمة الدولية الحقوقية المهمة العريقة، حيث جرى في ظل قيادتها ليس الاتجاه نحو المزيد من الشفافية والنزاهة والحيادية في رصد انتهاكات حقوق الانسان في العالم، بل جرى أيضا الاهتمام بشق مهم من مجالات حقوق الانسان لطالما أهمل في زمن الحرب الباردة ألا هو مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، والتي تعد بلدان العالم الثالث أكثر بلدان العالم تعرضا للانتهاكات في هذه الحقوق بفعل الانظمة الفاسدة الاستبدادية وبفعل الظروف والكوارث الطبيعية ناهيك عن النهب الوحشي المديد الذي تعرضت له ثروات هذه البلدان حينما كانت مكبلة باستعمار الدول الغربية “الديمقراطية” عقودا طويلة. ولعل آخر موقف غير مسبوق وذي مغزى ودلالات مهمة لمنظمة العفو الدولية هو الذي جاء على لسان أمين عام المنظمة ذاتها ايرين خان بمناسبة الذكرى الستين الاخيرة لصدور الإعلان العالمي لحقوق الانسان حينما نددت بما يسمى بـ “الحرب على الارهاب” التي شنتها الولايات المتحدة بعد أحداث سبتمبر 2001 وتسببت في تراجع حقوق الانسان في الدول الغربية وأضحت الممارسات الديمقراطية بهذه الدول معرضة للاهتزاز كقدوة عالمية بفعل تلك السياسات التي انتهجتها حكومات الدول الغربية الكبرى، وعلى الاخص ادارة الرئيس الامريكي الموشك على مغادرة البيت الابيض جورج بوش، مشيرة الى ان من جملة هذه الانتهاكات الرحلات السرية التي قامت بها الاستخبارات الامريكية بالتواطؤ مع حليفاتها الاوروبيات لنقل المعتقلين المعذبين المشتبه بضلوعهم في الارهاب من مراكز الاعتقال السرية في أوروبا الى معتقل جوانتنامو بكوبا السيئ الصيت عالميا.
ايرين خان التي أشادت بما حققته هذه الوثيقة الحقوقية الدولية “الاعلان العالمي لحقوق الانسان” كمرجعية وكمرشد وملهم لضمير الانسانية جمعاء في مختلف اشكال حقوق الانسان في كل بقاع العالم من تقدم في الوعي الحقوقي وكوثيقة ملهمة أيضا للكثير من حركات العالم الساعية لأنظمة اكثر عدالة في حماية حقوق الانسان وبضمنها الحركات التي جرت في دول المعسكر الشرقي السابق ضد عسف الشمولية وحركة النضال ضد نظام الفصل العنصري بجنوب افريقيا.. ايرين خان طالبت الرئيس الامريكي الجديد المنتخب باراك أوباما باتخاذ تدابير سريعة في المائة اليوم الاولى من حكمه المقبل لتصحيح جرائم وانتهاكات سلفه الرئيس بوش وعلى رأس هذه التدابير اغلاق معسكر جوانتنامو، والتنديد علنا باللجوء الى التعذيب، وانشاء لجنة حقوق مستقلة حول انتهاكات حقوق الانسان التي ارتكبت في اطار “الحرب على الارهاب”. فهل يقدم الرئيس المنتخب ذو الاصل الافريقي بشجاعة على اتخاذ هذه التدابير التي طالبت بها أمين عام “امنستي” ام يستسلم لمشورات وضغوط الفريق المعاون له، وجلهم للأسف من اصحاب السوابق غير المبشرين بالخير؟
صحيفة اخبار الخليج
23 ديسمبر 2008