المنشور

حريات النساء مقياس للديمقراطية

كلما ازدادت حريات النساء كان التقدم الاجتماعي أكبر، وتواجه الدول والجماعات المحافظة اليمينية و(اليسارية) اختباراً قوياً لمدى إيمانها بالديمقراطية اللفظية حتى الآن، ويتحدد ذلك بمدى قدرتها على إحداث تطورات كبيرة في حياة النساء في وضع يهيمن فيه الذكورُ هيمنة مطلقة في هذه الدول والتنظيمات. تعود الهزائم التي حلت بأنظمة التحرر والقومية والليبرالية الضعيفة إلى عدم إيلائها هذا الجمهور القابع في البيوت والتراث المجمد عناية كافية، فقد قادت هذه الأنظمة جماعاتُ الذكور المحافظين، ومهما كانت إيجابياتها على صعيد محاربة الاستعمار والتخلف فإنها تركتْ النساءَ في ظلام العصور الوسطى. وقد بدأت الأنظمة الليبرالية تقدماً مهما على هذا الصعيد فتفجرت شعارات تحرر النساء وظهر منظرون لهذه الحريات على صعيد الحريات الاجتماعية والسياسية المحدودة، لكن تلك الحريات لم تصل للعمل الصناعي وتحجيم العائلة الأبوية الكثيرة الأعداد والقابعة في الأمية والجهل والأساطير، وفي قوانين الاعتقال التي تـُبرر باسم الدين. بل ان الأحوالَ ازدادتْ سوءاً مع الأنظمة والحركات القومية العسكرية والدينية الشمولية، فقد تضخمتْ المدنُ العربية الصغيرة بأعدادٍ هائلة من الريفيين والبدو التي حملتْ الأشكالَ المتيبسة المحافظة وحاربت بها التطورات الوطنية والليبرالية الصغيرة في المدن العربية. وهكذا تحملتْ النساءُ تراجعات الحركات السياسية العربية وتصاعد ذكوريتها، فامتدت الدكتاتورية من البيوت إلى الشوارع والأحزاب والجماعات والحكومات. وكان التراجعُ ظاهراً على صعيد الملابس، وأدوات الزينة، وفرض الهيئة الذكورية على النساء، وتحجيم الجمال ودوره الخلاق، ونشر القبح، والأشكال الرهبانية وأمراض السمنة، ولكن النساء كن حتى في مثل هذا التصاعد للدكتاتورية كن يقاومن داخلها، بتغيير اللباس والبحث عن علماء دين يتسمون بالنزاهة والبعد عن الإقطاع، وهم نادرون محاصرون، فعاد عهد الجواري على نحو كثيف، وربحَ الكثيرُ من الرجال حريات البذخ واللهو والاسراف وتضييع ثروات الأمم الإسلامية. ولكن الأغلبية من النساء يتسمن بالخضوع ويزايدن على علماء الدين في محافظتهم فيزددن عبودية، نظراً لعدم درايتهن بالإسلام والحداثة، وعدم تمييزهن بين الإسلام كثورة نهضوية توحيدية ومشروعات الحركات الطائفية الرجعية التمزيقية لجسد الأمم الإسلامية. ساعد في هذا استيلاء قادة القرويين والبدو على مقدرات المنطقة وبثهم الشعارات المحافظة، وتصاعد مشروعاتهم وتكاتفهم وتكوينهم أحلافاً منظمة، وتمزق الحركات العلمانية والوطنية والتحديثية. صار بعض الرجال يطارد بناته لأنهن يكتبن ويقرأن، أو لأنهن يظهرن على المسرح يشاركن في عروض مسرحية خلاقة، فكان الوأد الجاهلي المتعدد الأشكال للبنات. في حين وجدنا في مرحلة سابقة آباءً أميين يفخرون بكتابة وحضور بناتهم الفكري. لا يعود هذا الحضور المحافظ لهذه الجماعات أساساً بل للتكوينات الاقتصادية الأساسية في كل بلد، فالحكومات العربية لا يهمها النسيج السكاني الاجتماعي برجاله ونسائه بقدر ما يهمها السيطرة على الثروات في مشروعاتها غير المراقبة، التي تخضع لراهن الربح والفائدة المادية، وليس لهدف تقدم السكان ككل. لدينا في البحرين عدة آلاف من النساء لا يشتغلن في الخارج بل يعملن في بيوتهن الخاصة، وهناك الملايين في كل بلد عربي بمثل هذا الوضع، في حين تأتي العاملات والموظفات الأجنبيات للاستيلاء على وظائفهن، ولا يهتم رؤوساء الشركات بالعاملين فما بالك بتطور الحضور النسائي في الأعمال المختلفة؟! يعتمد الحضور النسائي التحرري على تطور معيشة الطبقات الفقيرة، ومدى اتساع تعليمها، فهي المكان الأساسي لوجود الذكورية المحافظة والشمولية، وكلما ترقت في أجورها ووظائفها ومساكنها وثقافتها صعب تغلغل القوى الشمولية بينها. كما يؤدي هذا إلى عمل النساء واتساعه، وهو أمر يعمق كذلك من تطور معيشة هذه الطبقات، فلا ترغب في التوجه للمزايدات السياسية، وتعطي البنات حقهن من العمل والتعليم والثقافة. إن طبقات معدمة جاهلة لا يمكن إلا أن تجعل نساءها أكثر تخلفاً وإنتاجاً للتخلف. ومهما فعلت الأنظمة والحركات الدينية الشمولية من اضطهاد للنساء فإن الكثيرات يجدن ثغرات في نظام القمع الشامل هذا، فكل هذه الدول والجماعات الدينية المحافظة لها ظاهر وباطن، ادعاء بالتدين وتكالب على المنافع ولذائذ الحياة، فتظهر أنظمتها وحركاتها بهذا الشكل المشروخ المنافق، فاللافتات تقول: طهر ونقاء وصرامة، والباطن عمولات ومحرمات، سوق علنية (بيضاء) وسوق باطنية سوداء، أغلب الأشياء محرمة في الظاهر وصارمة ولكن في الباطن كل شيء مسموح وحسب أفضل الأسعار. ولهذا فإن الكثير من النساء المتمتعات عموماً بالدهاء يجاملن هذه الحركات والأنظمة وينسقن مع أغنيات الفضيلة الزاعقة فيها، ولكن يكون لهن باطنهن ومكرهن الخاص. غرائز البشر وأخطاؤهم ونواقصهم لا يمكن القضاء عليها بالخطب التي يعتقد المحافظون انها الوسيلة المثلى، ويجاورها العقوبات الصارمة، وهو أسلوب في ردع الإنسان ثبت فشله، وليس أفضل من المكاشفة والوضوح وتغيير الإنسان عبر ظروفه الموضوعية، ودعوته لخيارات الخير، ويبقى هو سيد مصيره، فإذا تجاوز القانون خضع لعقوباته. فوفر للنساء خيارات العمل والثقافة والرقي ثم حاسبهن على خياراتهن. أما أن تقمعهن وتسود عيشتهن فسوف يمكرن بك ويجعلنك أضحوكة وأنت تعتقد أنك سيد الفضيلة. لكن الدول والحركات المحافظة لا توفر ذلك لأغلبية النساء، فهن عاطلات في البيوت، يخضعن للسحر والثقافة المتردية للفراغ، فيجدن في الأزياء والعطور ومناكدة الأزواج وسوء تربية الصغار وجودهن الزائف وقد اُنتزع وجودهن الحقيقي. فتجر النساءُ الرجالَ المحافظين لهذا المستنقع الاجتماعي، فيؤسس الرجالُ بيئات متعة زائفة، ومجتمعات ذكورية خاصة بهم، ونفقات بذخية تدمر الأسر، فيكون المجتمع قد خسرَ رجاله ونساءه معاً. ونتاج ذلك حشود من النسوة في المحاكم ومعذبات ومطلقات وعيال مشردين، ويقوم الفقهُ الذكوري الجامد بمنع الإصلاح عن طريق الشرع، وعقاب الرجال الفاسدين.
 
صحيفة اخبار الخليج
22 ديسمبر 2008