كيف يمكننا أن نخلق جيلا قادرا على الابتكار والإنتاجية بعد عقود من الركود وأخلاقية عمل مختلفة وثقافة وبيئة غائبة لمثل تلك القيم؟
هذا السؤال سنناقشه مع مسألة دخل الفرد ووضع الأسرة الملتبس، خاصة وإننا نرغب في الحديث عن تلك الأسرة الشابة التي ستتعايش مع تطورات الرؤية يوما بيوم وتتلمسها سلبا وإيجابا كل لحظة. ولكي يولد مجتمع جديد مختلف خلال العقدين القادمين، فإن المشروع الصحي لبناء ذلك المجتمع يقتضي التركيز الجاد على الجيل الفتي من حيث التعلم النوعي والذي سيؤهل البحرين في ريادتها وقدراتها التقنية والفنية والمهنية، خاصة وإننا نود أن نكون مركزا خليجيا لأمور عدة كما ذكرتها الرؤية، كونها مصدرا من مصادر تنويع الدخل والذي من جرائه تتحقق الرفاهية والازدهار. لن أقدم توصيات أفضل مما كتبها التربويون أنفسهم وأصحاب العمل والمختصون حول تبديل تلك المناهج التعليمية وتدريب المعلمين والمخرجات وتنشئة الأطفال على قيم وثقافة وطنية وروح علمية لمعنى العمل والإنتاج والابتكار، والتي علينا الانطلاق بها منذ لحظة انطلاق الرؤية، لكي يكون أمامنا جيل شاب يدرك أهدافه ومتطلباته، فليس وظيفة التعليم إخراج متعلمين متبطلين بمؤهلات وتخصصات فائضة، إذ لن تكون الوزارات الحكومية بعد تلك الرؤية المكان الحاضن للتضخم الوظيفي ولعلنا نجد تلك الطروحات جادة في نهجها – وتبقى القضية الأكثر مقلقة هل ستستطيع الأسرة الشابة من متزوجين جدد الإيفاء بمتطلبات المعيشة إذا ما أخذنا بالاعتبار أن دخلهما قارب ٠٠٥ دينار للفرد الواحد، وهل ستكون مجزية مع مصاريف عائلة بحرينية تخطت أعدادها الخمسة أفراد وهنا العلة التي لا بد والعمل عليها ثقافيا فلا يمكن أن تصبح الحياة رغيدة ودخل الفرد وعائلته اقل من مصاريفهما في ظل تضخم سنوي يقارب ٥ – ومن هنا لا بد من التركيز على توعية المواطن البحريني الجديد الموجهة له الرؤية المستقبلية بحجم العائلة المنشودة، فمهما بحثنا عن تجارب شعوب وبلدان كسنغافورة وغيرها، فان ذلك لن يكون كافيا في بناء مجتمع مزدهر وبوضع معيشي جيد، فالمطلوب من المنظمات المدنية والمؤسسات الدينية والمناهج التعليمية تثبيت فكرة تحديد النسل أو التفكير بحجم عائلة صغيرة حتى وان لم نجرؤ حاليا على مناقشة تحديد أعداد حجم الأسرة البحرينية.
ما تكلفه العائلات الكبيرة من مصاريف ونفقات للدولة ربما لن تستطيع حكومات المستقبل الإيفاء بها، وستبقى باستمرار إذا ما واصل الجيل القادم بذهنية التفريخ غير اللازم لأعداد أسرته، حالة الفقر التي تحاول البحرين الخروج من لطختها كدولة خليجية، فالإعانات المستمرة ليست إلا نوعا من الحقن الاصطناعي لإنقاذ الوضع المعيشي للأسرة البحرينية، التي تحتاج أن تدرك ما معنى ترشيد الاستهلاك والإهدار الفائق في حياتها وثقافتها. ما تؤكد عليه الرؤية في أكثر من موضع أن المستقبل ليس ورديا دون الإشارة لتلك العبارة – إذا ما استمر المجتمع على هذا المنوال في أسواق عالمية متطورة ومنافسة ومتفوقة، وعلى الشعب البحريني حاليا ومستقبلا إعداد نفسه لمعركة تنموية شديدة وقوية ومكابرة وصعبة لن تحل معضلتها بسهولة، إذا ما تراخينا، وتوهمنا أن مجرد احتجاجات غاضبة واعتصامات عاجلة ستحلها، فكل القضايا المستعصية مستقبليا مرهونة بالعمل والتقدم العالمي وتشابكه اقتصاديا، فليس بالعنتريات تنجز المطالب والحقوق في سوق لا ترحم.
الشعوب التي تنظر للبعيد وتستعد للمصائب وتتكيف مع المتغيرات والتقلبات وتأخذ بناصية العلم والعمل المثابر هي وحدها الشعوب التي ستكون مستقرة ومتوازنة مع ظروفها ومحيطها. ما طرحته ورقة الرؤية كوثيقة تاريخية من تطلعات وأهداف وتحديات، حددت لنا خلاصة المسار التاريخي للبحرين اقتصاديا، حيث مررنا بمنعطفين كبيرين، هما اقتصاد الغوص أو اقتصاد ما قبل النفط ثم المنعطف الثاني وهو اقتصاد النفط أما المنعطف الثالث والقادم هو اقتصاد ما بعد النفط، والذي ستقع مواجهة تحدياته على عاتق جيل الميثاق فهو وحده الذي سيكون نظامه التعليمي مختلف وثقافته وبيئته مختلفة، ومن أهم تلك الثقافة الجديدة هو التركيز على محور الوطن والمواطن وتربيته على الحريات والحقوق والنقاش الحر الواعي المسؤول، وتعلم ثقافة النقد والمكاشفة والشفافية والنزاهة ومناهضة الفساد وصيانة البيئة والثقافة الوطنية واحترام قيم العمل والإنتاجية والابتكار، مواطن ينتمي لمرحلتنا القادمة ويعي أولوياته وخياراته في محاربة كل ما يهدم ويمزق التماسك الوطني للوطن ويواجه كل بواعث شريرة لنشر الطائفية والقبلية والامتيازات وإرساء دولة القانون واحترام المؤسسات الشرعية وديمومة الأمن والاستقرار الاجتماعيين، والابتعاد عن كل أشكال العنف ومعالجة كل مشاكلنا الصغيرة الكبيرة بالحوار ووضع الحلول الناجعة لها بكل مصداقية وجدية، ولن يتحقق ذلك كله لمجرد أن ورقتنا (الرؤية) نصوصها جميلة ورائعة وإنما بجعل روح تلك النصوص الميتة شجرة خضراء كالحياة، بجعل جميع أطراف المعادلة متعادلين دائما وراضين عن توزيع ثروتهم ودخلهم الوطني.
لقد قدم لنا التاريخ تجارب ودروسا للاقتتال بين الأخوة، بين هابيل وقابيل، وقد ورثنا كل تلك العلاقة والقيم، حتى صار تاريخ الإنسانية إراقة من الدماء لم تتوقف بعد، ونزاعا لم يهدأ إلا قليلا، وعلينا أن نخرج من تلك الدائرة العنيفة وحياة البؤس والفقر والحرمان، فهل تنفعنا تجربة سنغافورة الهادئة؟ أم نحاول المزج بين تراثنا وثقافتنا بثقافات إنسانية متنوعة تستلهم البحرين خلاصة زبدتها المفيدة، فالابتكار العقلاني للتحولات التاريخية للشعوب هو البحث عما هو ممكن كقدرات ذاتية وداخلية ومواءمتها مع شروط خارجية ممكنة. وطالما عاش إنسان مرحلة الغوص بإرادة عمل معطاءة في ظروف عمل قاسية للغاية، فإن أجيال النفط الأوائل برهنوا أنهم فنيون ومبدعون في أعمال التابلاين، الذي وصلت أنابيبه حتى الحدود التركية، فان الجيل الحالي والقادم سيكون مبدعا وخلاقا، فكل قيم العمل وإبداعاتها المبتكرة ينتجها النظام المهني والأخلاقي والاجتماعي لسلوك الناس وعاداتهم وحرصهم على استمرار عيشهم الكريم.
صحيفة الايام
21 ديسمبر 2008