من كان يصدق أن الجنرال ميشال عون الذي رفع لواء تحرير لبنان من الاحتلال السوري عندما كان رئيساً عسكرياً للبنان، والذي وصل الصدام بينه وبين النظام السوري إبان حكم الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد إلى حد قيام الطائرات الحربية السورية في عام 1992 بالإغارة على قصر بعبدا وقصفه لإنهاء حكم الجنرال عون قبل أن يضطر الأخير إلى اللجوء للسفارة الفرنسية في بيروت، ومن ثم الإقامة في المنفى الفرنسي لمدة 15 عاماً كرسها للهجوم على سوريا ومطالبتها بإنهاء ما أسماه آنذاك الاحتلال السوري للبنان - من كان يصدق أن هذا الجنرال الذي عرف بصلابة مواقفه السياسية أن يقوم بزيارة دراماتيكية إلى العاصمة السورية دمشق وأن يستقبل فيها بحفاوة بالغة تليق برؤساء الدول؟
ومن كان يصدق أن يتحول أحد ألد أعداء سوريا بين الزعامات اللبنانية إلى أحد أبرز حلفائها في المعسكر الموالي لها والمضاد لمعسكر الموالاة، وهي ‘التشكيلة’ التي استقر عليها النظام السياسي اللبناني (موالاة ومعارضة) - مؤقتاً طبعاً - والتي أفرزتها عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري؟..
ولكنها السياسة وألاعيبها وأعاجيبها التي حيرت كل لبيبٍ وكل حريفٍ وكل هاوٍ وغاوٍ غامر بالاقتراب منها أو حاول ‘التقرب’ من بعض ميكانيزمات توظيفها كأداة تسيير وإدارة، كليةً كانت أو جزئية، وسواء أكان هذا ‘التقرب’ عملاً احترافياً متصلاً أو مجرد عمل جزئي جانبي إن شئتم، لغايات مختلفة.
فبالأمس فقط فاجأ الرئيس الفرنسي نيكولا سركوزي أقطاب الطبقة السياسية الأوروبية والأمريكية وأوساط مشيختها الفكرية وأوساطها الإعلامية، بالتحول المفاجئ الذي طرأ على موقفه من الإيديولوجية الرأسمالية على إثر اندلاع الأزمة المالية والاقتصادية العالمية الطاحنة التي هزت بلدان المركز الرأسمالي أولاً قبل أن تنتقل عدواها في لمح البصر إلى بقية أنحاء وأطراف النظام.
فبعد أن كان قطباً جديداً صاعداً ومتعصباً بين الزعامات الغربية الكبرى في سماء إيديولوجيتها الرأسمالية بنسختها الإنجلوسكونية المتوحشة، إذ به يتحول إلى أحد أشد المنتقدين لها لحد القول ‘بأن زمن السوق الحرة التي تنظم نفسها بنفسها قد ولى، وأقوى وأفضح المطالبين، بناءً على ذلك، بإنشاء نظام مالي واقتصادي عالمي جديد قوامه تعظيم دور الدولة في الاقتصاد ووضع ضوابط صارمة على حركة رؤوس الأموال ذات التوجهات الاستثمارية غير المباشرة (أي غير الموجهة للتوظيف في قطاعات الإنتاج وإنما في أسواق المال ومضاربات أسواق العملة وأسواق السلع الآجلة)!
وهذا ما حدث تماماً مع الجنرال ميشيل عون، مع فارق بسيط أن تحوله من النقيض إلى النقيض فيما يتعلق بموقفه من النظام السوري، قد تم بالتدريج (بالتقسيط إن شئتم)، بينما جرى في حالة سركوزي دفعة واحدة.
طبعاً مثل هذه المواقف المتقلبة لا تروق للغالبية العظمى من الناس سواء أكانوا ممتهنين للسياسة أو أناساً عاديين، بل هي تحظى على الفور باستهجانهم واستنكارهم.
وقد ذهبت في هذا الصدد مجلة الإيكونومست البريطانية على سبيل المثال، لحد طرح التساؤل عما إذا كان الرئيس سركوزي اشتراكياً أصلاً!
السياسيون المحترفون فقط يمكن أن يفهموا - ولا نقول يتفهموا - مثل هذه ‘النقلات الحادة’ في مواقف زملائهم وأندادهم في العمل السياسي الاحترافي.
أما الإيديولوجيون، وبسبب ارتهانهم لمرجعياتهم، سواء أكانت دينية أو عقائدية، التي تسيج منظوماتهم العقلية والمعرفية بسياج متين ورفيع وتحجر على ملكاتهم ومخيلاتهم الفكرية والإبداعية، فإنهم حتماً لن يفهموا مثل هذه ‘المراوغات والتشقلبات’ السياسية الأبعد ما تكون عن الثوابت والالتزامات المبدئية المتصلة بالموقف العام السائد من القضية المعنية في الظروف التاريخية المحددة، والأقرب زعماً للواقعية التي تتكئ عليها عادةً المدرسة العملية (البراغماتية) التطبيقية الأمريكية.
الجنرال ميشيل عـون شخصية سياسية مثيرة للجـدل، هذا مما لاشك فيه.
وقد ينعته بعضهم، من هذه الزاوية، بأنه مزاجي وحاد الطباع، وهما صفتان لا تستقيمان مع مقومات الشخصية المتزنة التي يؤهلها هذا الاتزان لتشرب الممارسة الواقعية، بيد أن هاتين الصفتين، على أهميتهما، لا تكفيان وحدهما للحكم على أهملية الفرد للعمل بمبدأ الواقعية الناجعة، فالجلد والدهاء والمثابرة خواص نوعية لاتستقيم الشخصية السياسية الناجعة بدونها.
وهذه خواص متوفرة، على ما نرى، في شخصية الجنرال عون.
ولعل هذه الصفات هي التي ‘أهلته’ للوقوف في وجه المرجعية الروحية المسيحية في لبنان، وهي هنا البطريرك مار نصر الله صفير بشأن أسلم الخيارات المتاحة أمام مسيحيي لبنان وأفضل السبل لتعاطيها تحقيقاً لمصالح المسيحيين اللبنانيين بكافة طوائفهم.
وعملاً بمبدأ ‘إذا لم تستطع التغلب عليهم فانضم إليهم’ البراغماتي اختار الجنرال عون، على عكس بقية الزعامات المسيحية، الاتئلاف مع حزب الله ومن خلاله مع إيران وسوريا، إذ رأي في مثل هذه الخطوة، نعم المثيرة للجدل، السبيل الوحيد المتاح لحماية الوجود المسيحي في لبنان وحماية مصالحه من المخاطر المحدقة في ظل هذا الزحف المخيف والتمدد الذي لا تخطؤه العين لمصادر قوة التحالف الثلاثي السوري الإيراني - حزب الله في الساحة اللبنانية على حساب بقية القوى، وذلك على الرغم من الازدهار المؤقت الذي حظيت به حالة القوى المضادة لهذا التحالف وانكفاء الأخير (مؤقتاً أيضاً) بانسحاب القوات السورية من لبنان في أعقاب اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري، والعدوان الإسرائيلي في تموز/يوليو 2006 الذي استهدف تصفية حزب الله عسكرياً بعد تجريده من ورقة حليفه السوري في لبنان، والذي انتهى إلى الفشل الذريع الذي نعرف وأدى إلى تقوية نفوذ التحالف الثلاثي.
أخيراً للتذكير فقط فلعل التذكير ينفع الساسة الغافلين، الهواة منهم كما المحترفين، بأنه ليس في السياسة أصدقاء دائمين ولا أعداء دائمين.
صحيفة الوطن
20 ديسمبر 2008