هي ليست ظاهرة صعبة الفهم لكنها كوميدية غرائبية، وتتحول في بعض الحالات إلى مآس، فبعضُ هؤلاء الذين يريدون تصدرَ المسرح التاريخي، وركوبَ الغليان السياسي، لأغراضٍ ذاتية، ينقصهم العتاد والعدة الفكرية لمهمام صعبة خارقة مثل هذه.
وكان العامة يقولون؛ (الثوب الطويل يتعك)، أو يرددون (رحم اللهُ من عرفَ قدرَ نفسه)، وكل هذا من حصافة التفكير العامي الشعبي، الذي يبني تقدمَهُ السياسي على الصبرِ والحكمةِ ومعرفة ما هو ممكن وعدم الخنوع والذل والنضال المستمر حتى لو كان صغيراً وتراكمه مر عسير.
هذا هو الميراث الذي كرسه التقدميون البحرينيون فالتحموا بالناس العاديين طويلاً، على مستوى السياسة وعلى مستوى الفكر.
لكن المتضخمين التحموا بالهياكل الاستبدادية والمحافظة الدينية والحياة الشوارعية، وهو ميراثٌ هائل غير مرئي يتغلغل نسيجه في الأحزاب والتفكير العام فيوجد تلك الشخصيات المنتفخة والمحدودة الوعي. وقد بدأ ذلك منذ أن كانوا في الكتاتيب والمآتم والمساجد والخلايا، فكانوا يستمعون ويتلقون من دون تفحص كبير الموادَ التي تـُبث في أدمغتهم المحدودة، وكانوا ينفعلون بقوة ويتشكل فهمهم السياسي على أرضية الحماس الشديد وخاصة الاكثار من الصراخ والشتائم الحادة للخصوم السياسيين والاجتماعيين، وهو أمرٌ يشير إلى طبيعة الوعي الطائفي الذي يقسمُ الناسَ إما إلى مؤمنين وإما كفار حتى بين جماعات المسلمين.
وتبدو مسألة (الفرقة الناجية) أو المنصورة أو الذاهبة وحدها للجنة، مسألة متجذرة حادة لديهم. وهو تعبيرٌ أخروي عن سيل اللعاب الدنيوي للاستيلاء على الثروات.
وهذا الوعي لا يلقي نظراً متفحصاً على الظروف والإمكانيات السياسية الحقيقية، بطبيعة هذا التضخم والحدة ولهذا يتحول القائدُ الفذ والأستاذ الجامعي والعامل الأمي إلى شخصية بلهوانية صاخبة، ذات نمطٍ موحدٍ من الادراك، الذي لا ادراك عميقا فيه، بل هو تأججُ عواطف وغضب شديد وكراهية كبرى.
فهنا في هذا الغضب الكاسح الماحق لا تسأل عن الأستاذ أو القائد أو العامل فقد صاروا شيئاً واحداً، كذلك لا تسأل عن الوعي الديني المحافظ أو الوعي الديمقراطي العلماني، أو القومي أو الوطني، فكلها التبستْ وضاعت، وتاهتْ، فلا يتحركُ هنا سوى الولد الصغير الذي اندمج في الشعائر وبكى وصرخ، فإذا كانت الوطنية مفيدة تسلق مواسيرها، وإذا كانت الطائفية محركة ارتفعَ فوق موجاتها صارخاً شاتماً، وإذا كانت (الديمقراطية) جيدة مشى فوق سجادها ملتقطاً الذهبَ الذي صارَ عنده مثل الحلويات التي طالما اندفع إليها.
بطبيعة الحال فإن أوضاع الناس المادية الصعبة أو المتردية تجعل الغضبَ ضرورياً، والنقدَ واجباً، والصراخ أحياناً مهماً لسحب طاقات البخار الداخلية، لكن مثل هذا البخار لا ينضجُ أرزاً في السياسة.
ولكن كيف صار خريج الجامعات مثل أولاد الحارات الشتامين بالبذاءات المستمرة؟! هنا تغدو المسألة تهريجاً مضحكاً، وفي ذات الوقت مأساة مؤلمة.
فالولدُ الذي كان يضربُ الخبازين النائمين، ويسرق دكاكين الفقراء، صار قائداً، وعليه أن يقود الجماهير للحرية، وليس في عدتهِ سوى التسلق والصراخ وإطلاق الشتائم، التي تبدو أحياناً بأشكال علمية زائفة، يرتبُ الأحداثَ كيفما يريد ويعلي من شأن الجماعات الطائفية التي تغدو هي ذروة التاريخ الوطني.
فهو لا يريد مشياً سياسياً عقلانياً، وليست لديه صفات الصبر وإعادة الناس للوحدة النضالية التي فقدوها بسبب العسف والتسلق الطائفي الانتهازي الطويل، بل يريد أن يكون على صدارة المسرح فهو الزعيم الخالد.
كما كان في سنوات ماضية عدواً لدوداً للتقدميين، ويريد زوال هؤلاء الحاقدين على الأمة العربية المجيدة أو على الطائفة المنصورة، وامتلأ كرها ضارياً لهذه الأفكار فصار ذلك مرضاً سرياً متوارياً قوياً لم تحوله السنون، ويصبح هذا (النموذج الرمز) في أيام أخرى وطنياً أو قومياً أو تقدمياً حسب أسعار البورصة السياسية، ثم كان مستقره الأخير في الطائفية، هنا وجدَ نفسَهُ مثلما بدأ ولداً صغيراً شتاماً حاقداً على (الآخر)، وتبخرت كلُ أسمال (البدلات) السياسية التي لبسها وخدع الناس بها.
عاد إلى الحارات التي كان يضربُ فيها الناسَ بالحصى، وكأن تاريخ النار قد امتد منذ الثورات الأولى التي لم يعرف فيها سوى الصراخ والحرائق للأشياء، ولم يستطع أن يكون نضالاً بناءً مهما على الأرض، الذي كونه التقدميون التوحيديون عبر تراكم النضالات الصغيرة التي كان يسخر منها، فوجدَ نفسَهُ فجأة يستفيد منها ويلتحق بها، ولكن الكراهية الداخلية القوية في ذاته لم تزل، فحتى إذا أدبرت الدنيا عن التقدميين بعنف وإغراء الأشياء، عاد إلى جلده الطائفي منتفخاً يدقُ طبولَ الحرب ضد الوطنيين والتقدميين.
توحدتْ لغاتُ البذاءات والكراهية والعمى السياسي والمجاعة الفكرية لدى أنماط الولد الطائفي، عمرهُ الآن خمسون أو ستون سنة، ولم يزل صبياً يقذف الناس بالحجارة، ويضع قدماً عند اليسار وقدماً عند اليمين، يناصر العمال ويقبض من الرأسماليين، يحاضر عن العلمانية ويخطبُ ود الطائفية حبيبته الأولى والأخيرة، يدعي العقلانية ويؤجج الصبيانية السياسية، يتحدثُ عن العلوم ويكرس الخرافات وأصحابها، يتظاهر بالرهبنة الثورية وهو أرستقراطي كاره للشعب، يدعي حب الوطن وهو لا يحب إلا الحارة التي عاش فيها، لا يكتب عن الوطن إلا إذا كان نقداً له، يعيش بيننا ويكرهنا.
يتماثل الولدُ الطائفي في مستوياته المختلفة، فهو إذا كان شوارعياً سيعتمد الرسائل القصيرة والألفاظ المتدنية، زاعماً نضالاً لا يملكه وشهامة متوارية تحت خوف متأصل، وإدعاءً وطنياً على جسد غير وطني.
وإذا كان متعلماً فإنه لن يؤمن بالطريق الوطني التوحيدي، فهو بلهوان سياسي دأب على طرق المغامرات والارتكاز على من هو قوي، حتى ولو كان سيئاً وخطراً، تهمه الغايات التي ترفعه لا الوسائل التي تدمر الوحدة والعقلانية، وقد رأى كيف كان النضال الوطني التقدمي هو الطريق الصحيح لكنه يرفضه لأنه لا يستطيع أن يسير فيه طويلاً.
لم يتعلم الولد الطائفي من كل العقود النضالية التي مرت، لم يراكم وعياً ويوسع معرفته بالواقع الموضوعي، ومن هنا فسوف يظل ولداً حتى في شيخوخته وهو يهذي بشتائم المناضلين والمضحين.
صحيفة اخبار الخليج
20 ديسمبر 2008