* ذاكرة الماحوز
لربما من حسن الحظ ان نجد في المؤلفات الحديثة المتخصصة في تأريخ عدد من مناطق ومدن وقرى البحرين على أيدي بعض ابنائها الشغوفين بتاريخ وتراث مناطقهم التي ولدوا على ترابها وترعرعوا بين ربوعها ومرابعها شيئا مما يعوضنا عن غياب التدوين المفصل لتراث وتاريخ بلادنا، وان كانت معظم هذه المؤلفات تفتقر الى المنهجية العلمية في البحث وطريقة تدوين تاريخ المنطقة على نحو علمي موضوعي. إذ يغلب على غالبيتها العظمى طابع عدم التوثيق، وغلبة الاعتماد في تدوين تاريخ وتراث المنطقة من خلال الحوارات والاحاديث مع شيوخ المنطقة المعمرين، وطغيان الطابع العاطفي في تناول العديد من موضوعاتها، فضلا عن ان جل تلك المؤلفات ينصرف الى التركيز على الجانب التراثي – الديني على حساب الجوانب الثقافية والتراثية الحضارية الاخرى التي تشتهر بها المنطقة او المدينة او القرية. ولعل من المؤلفات الاخيرة الصادرة في هذا الشأن «ذاكرة الماحوز« للصديق العاشق لتراث وطنه عبدالله حسن عمران الذي أهداني نسخة منه وقت صدوره في خريف العام الماضي 2007م، إلا انني لم أتمكن من قراءته للأسف، إلا مؤخرا، بسبب انشغالي بالكتابة السياسية الصحفية اليومية المنتظمة، ناهيك عن بعض البحوث والدراسات السياسية التي تنشر لي في بعض الدوريات السياسية العربية، فضلا عن انشغالي الوظيفي اليومي، وانشغالاتي العائلية، علاوة على اهتماماتي الثقافية والتثقيفية الذاتية الاخرى. وبالتالي فله المعذرة على هذا التأخر الخارج عن الارادة في تناول عرض وتحليل هذا الكتاب القيم الهام الممتع في وقت مبكر من غداة صدوره. ويمكن القول ان كتاب الصديق عبدالله عمران هو واحد من اهم الكتب التي صدرت حتى الآن والتي تخصصت في تدوين تاريخ وتراث مدن وقرى البحرين، وانه تمكن الى حد كبير من تلافي العديد من الهفوات والكتابات الارتجالية غير المنهجية التي ميزت الكتب السابقة، ولاسيما ان المؤلف عمران استعان مقدما في كتابة تاريخ «الماحوز« ببعض الاساتذة البحاثة المتخصصين او المهتمين بكتابة التاريخ والتراث، كالدكتور سالم النويدري، والدكتور عبدعلي حبيل، والاستاذ علي أكبر بوشهري، والملا محمد جعفر العرب، والمرحوم الملا محمد علي الناصري، والدكتور عبدالقادر فيدوح، وغيرهم. هذا الى جانب بعض شيوخ القرية من كبار السن او اصحاب الذاكرة الحية. ومن حجم الكتاب (300 صفحة) ومصادر مادته العديدة يبدو جليا حجم الجهد الكبير الذي بذله المؤلف في تدوين تراث وتاريخ هذه المنطقة البحرينية المهمة وتراثها، ولاسيما ان الكتاب يزخر بالعديد من الصور التاريخية القديمة النادرة. ومن أبرز الموضوعات التي تناولها المؤلف في «ذاكرة الماحوز«: الوصف المعماري لأشهر مقام في البحرين، ألا هو مبنى مقام الشيخ ميثم البحراني الفيلسوف والعلامة اللغوي والديني المعروف، والشيخ أحمد بن صالح بن طعان، والشيخ جعفر أبوالمكارم، والقبور الخارجية الثلاثة، والشيخ سليمان الماحوزي، وأبرز رجال الدين والفكر الذين حملوا لقب «الماحوزي«، وبعض عوائل الماحوز، ومساجد القرية، ومآتمها، وصندوقها الخيري، ومجالسها، والرياضة فيها، وعدد من اصحاب المهن والحرف المشهورين فيها. ولعل ما يميز الكتاب انه لم يترك حتى تدوين اسماء أشهر مزارعها وغابات نخيلها التي يقبع على مساحاتها الواسعة اليوم أرقى الفيلل والعمارات والبيوت الحديثة، وجميع هذه المزارع كان يأتي ريها من عين «ام شعوم« الشهيرة. وقد دون المؤلف في جدول لهذا الغرض مسميات ما لا يقل عن 33 مزرعة، حدد مواقعها الجغرافية. ومن هذه المزارع «ام خجان« و«الحلال« و«الجنابة« و«السعيدية« و«أبوشعيب« و«أبوغزال«. الى ان ينتهي الى مزرعة «المخرجة«. قلت ان ما يميز هذا الكتاب القيم هو تمكنه من تفادي الكثير من الهفوات الارتجالية والعاطفية التي ميزت معظم كتب تاريخ القرى التي صدرت سابقا. والصديق المؤلف عمران هو واحد من اكثر مثقفي شعبنا عشقا لتراث وتاريخ وطنه بالرغم من أن تخصصه العلمي الأصلي هو الهندسة المدنية بينما وظيفته مهندس بوزارة الاشغال، فإنني ارى ثمة ملاحظات فنية ومنهجية، لكن إذ يصعب تناولها جميعها تفصيلا في هذه العجالة في هذا الحيز الضيق من هذا العمود اليومي، فإنني سأحاول تناول ابرزها بشكل موجز سريع: 1- كان يستحسن، في تقديري، ان تكون السيرة الذاتية للمؤلف في الصفحات الأخيرة من الكتاب وليس في الغلاف الخلفي للكتاب. 2- لا ارى ثمة داعيا من وجهة نظري، ان لم أكن مخطئا، للتمهيد الاستطرادي الطويل الذي تناول فيه المؤلف عطاء البحرين عبر العصور بدءا من العصر الدلموني وانتهاء بالعصر الاسلامي. 3- كان يفضل ان تأتي هوامش موضوعات الكتاب إما مع نهاية كل فصل او موضوع، وإما في نهاية الكتاب. كما ان العديد من هذه الهوامش جاءت بنفس البنط البارز المطبوع لنصوص الكتاب حتى بدت كأنها من صلب موضوعات الكتاب الاساسية (انظر على سبيل المثال هوامش موضوع «موقع الماحوز« من ص 19 الى ص 25). كما ان معظم صور الكتاب تخللت على نحو بارز بأحجام كبيرة نصوص فصول الكتاب، وليت لو تم وضع معظمها في الصفحات الاخيرة. 4- بهذا المعنى الذي اشرنا اليه في الملاحظة الآنفة الذكر، فان المؤلف او مرشديه لم يعنوا بما فيه الكفاية لتبويب موضوعات وفصول الكتاب ترتيبا بحثيا علميا. 5- لم يخل هذا الكتاب القيم المفيد، رغم تمكن صاحبه من تلافي هفوات المؤلفين السابقين في تدوين تاريخ مناطقهم من طغيان ايضا المادة الدينية التراثية، كسائر الكتب السابقة، رغم أهميتها، على سائر مواد موضوعات التاريخ والتراث الاخرى الخاصة بالمنطقة. وكنت أتمنى لو أن المؤلف الصديق عمران، وبحكم تخصصه في الهندسة المدنية، لو أكثر من الاهتمام العمراني والفني التراثي للقرية، فضلا عن التراث الهندسي المدني البحريني والعربي بوجه عام على صعيد اهتماماته الشخصية وعشقه للتراث. مهما يكن فإن هذه الملاحظات الفنية والمنهجية الشكلية العابرة لا تقلل ابدا من أهمية الكتاب وقيمته العلمية الفائقة، أو التقليل مما بذله مؤلفه من جهود مضنية طويلة في جمع مادته ومصادره ثم كتابته. وإذ نشد بقوة على يد الأخ عبدالله عمران على هذا الكتاب الشائق الممتع المفيد ونهنئه عليه، فإننا نتمنى له التوفيق والنجاح نحو اصدار المزيد من المؤلفات والبحوث التراثية القيمة.
صحيفة اخبار الخليج
18 ديسمبر 2008