المنشور

روسيا ورحيل اليكسي الثاني

بوجه من الوجوه يمكن تشبيه الدور الديني والوطني والحضاري الذي لعبته الكنيسة الارثوذكسية في تاريخ روسيا وحياة الروس ماضيا وحاضرا بالدور الذي لعبه الاسلام دينيا وسياسيا وحضاريا ووطنيا في تاريخ العرب والمسلمين ماضيا وحاضرا، لكن الكنيسة الارثوذكسية، كسائر الاديان الاخرى في الاتحاد السوفييتي السابق واجهت تهميشا وتضييقا لم يسبق له مثيل على امتداد تاريخها وذلك في ظل نظام الحكم الاشتراكي الشمولي السابق الذي كان متطرفا تطرفا علمانيا إلحاديا في تعامله مع الأديان على امتداد ثلاثة ارباع القرن من الحقبة السوفييتية وهذه واحدة من الاخطاء الكبرى القاتلة التي وقع فيها النظام السوفييتي السابق وأفضت الى جانب عوامل رئيسية اخرى، موضوعية وذاتية، الى انهياره في مطلع تسعينيات القرن الماضي، وهو الخطأ ذاته الذي ارتكبه ايضا اليسار العربي وأدى الى تضعضع قوته. وكان الحزب الشيوعي الروسي الذي أعيد بناؤه تنظيميا داخل روسيا على انقاض الحزب الشيوعي السوفييتي قد اعترف بهذا الخطأ القاتل الذي وقع فيه الحزب الشيوعي السوفييتي السابق، في مراجعة له اعاد الاعتبار لدور ومكانة الكنيسة الارثوذكسية في حياة الشعب الروسي. وفي هذا الصدد يعترف زعيم الحزب الشيوعي الروسي الجديد جينادي زوجانوف «ان الكنيسة الارثوذكسية تقوم بدور كبير لاشاعة السلم، وهي برهنت خلال تاريخ الدولة الروسية على التأثير الذي يمكن ان تمارسه على التوحيد الروحي«. ويضيف: انه «لولا دور الكنيسة الارثوذكسية في اشاعة الاخلاق السامية لكان من المستحيل ان يتحمل شعبيا ويصمد في مواجهات التحديات التاريخية والغزوات التي تعرضت لها روسيا بما في ذلك دورها حتى خلال الحرب العالمية الثانية في الدفاع عن روسيا في وجه الغزاة النازيين«. وأكد زوجانوف ان الارثوذكسية هي مصدر توحد الروس ومصدر وطنيتهم وشعورهم بجبروت دولتهم واعطاء حتى فكرهم الاشتراكي خصوصيته والأهم من ذلك فان زوجانوف قيم عاليا مواقف ودور بطريرك موسكو وعموم روسيا اليكسي الثاني الذي غيبه الموت مؤخرا في رؤيته الانسانية المواطنية لكل الروس على اختلاف دياناتهم وافكارهم وتياراتهم وبضمنهم الشيوعيون. وبهذا المعنى يمكن القول ان رحيل البطريرك اليكسي الثاني شكل خسارة سياسية ودينية واجتماعية لروسيا برمتها بل لأتباع ديانات العالم الكبرى باعتباره واحدا من ابرز الزعامات الدينية الداعية للحوار مع الاديان وتغليب القواسم الثقافية والدينية والاخلاقية فيما بينها. لقد تسلم اليكسي الثاني بطريركية موسكو وعموم روسيا بعد انتخابه في محطة تاريخية حساسة فاصلة من اصعب المحطات التاريخية المعاصرة التي مرت بها البلاد، وكان ذلك بالضبط عشية انهيار النظام السوفييتي السابق في مطلع العقد الاخير من القرن الماضي، حيث وقع عليه العبء الاساسي لاعادة بناء المؤسسة الكنسية الارثوذكسية الروسية بعدما واجهته من تهميش كبير من قبل السلطات الشيوعية على امتداد سبعة عقود ونيف. ولعل مما ساعده على القيام بهذه المهمة نزوع قطاع كبير من الشعب الروسي للرجوع إلى الدين بعد احباطهم من اخفاقات النظام السوفييتي السابق الذي اعتراه الوهن ونخره الفساد فكان انهياره المحتوم، واستغلت القوى الجديدة الصاعدة التي ورثت السلطة عن النظام المنهار ذلك لقطع الطريق نهائيا على اي احتمال لاستعادة الشيوعيين السلطة في البلاد بإلقاء ثقلها الى جانب اليكسي الثاني، وهو بدوره استغل هذا الدعم لاستعادة كل ممتلكات الكنيسة التي صودرت في الحقبة الشيوعية السوفييتية. وتمكن بطريرك روسيا الراحل في سنوات قليلة من رد الاعتبار لمكانة الكنيسة الارثوذكسية كواحدة من اكبر مراكز النفوذ والتأثير الاجتماعي على صناع القرار السياسي في روسيا، وهو ما اخذه الكرملين بعين الحسبان، وبخاصة عند المنعطفات الصعبة، ومنها ما حدث عام 1993 غداة قصف الجيش للبرلمان المعارض للرئيس الراحل يلتسين حيث كادت البلاد ان تستدرج الى حرب اهلية تأكل الأخضر واليابس. وتمكن الفقيد اليكسي الثاني من توحيد الكنيسة الارثوذكسية بين كنيسة الداخل وكنيسة المهجر، وجرى اعمار وترميم آلاف الكنائس، ومئات الأديرة المهملة في العصر السوفييتي وفتح اكثر من مائة معهد ديني، وساهم بطريرك موسكو وعموم روسيا الراحل في حل الخلافات والانقسامات الكنسية المترتبة على تفكك الاتحاد السوفيتي، ولاسيما في الجمهوريات السلافية التي حرضت مؤسساتها الكنسية الارثوذكسية على الانشقاق عن الكنيسة الأم في موسكو وعموم روسيا. وعرف عن اليكسي الثاني دوره الكبير كوسيط فاعل في حل النزاعات الاقليمية في فضاء الاتحاد السوفييتي السابق، ومنها النزاع بين ارمينيا وأذربيجان على منطقة «ناجورني كارباخ«، وكذلك النزاعات الاخرى في البلقان. وهو كان من اشد المعارضين لقرار الولايات المتحدة وبريطانيا بشن حرب على العراق، ومن المؤيدين بقوة لقيام دولة فلسطينية وتحقيق تسوية عادلة تقوم على سلام شامل في المنطقة. ووقف بطريرك موسكو وعموم روسيا اليكسي الثاني منافحا بقوة في مواجهة محاولات التغلغل الديني للكنيسة الكاثوليكية في بلاده مستغلة تداعيات فوضى الانهيار المدوي للاتحاد السوفييتي السابق. لقد شكل رحيل هذا الزعيم الروحي الروسي خسارة فادحة كبرى لروسيا ولكل الداعين إلى التسامح والتعايش الروحي الاخوي بين اتباع الديانات، وهي خسارة أجمع عليها رموز وشخصيات دينية وسياسية مختلفة في بلدان عديدة من العالم. وكان من بين هؤلاء الشيخ محمد علي تسخيري رئيس مجمع التقريب بين المذاهب الاسلامية الذي أثنى على مناقبية الراحل وحبه لكل اتباع الديانات ونظرته الانسانية التي تتجاوز روسيا واهتمامه الكبير بتطوير الحوار بين الأديان، واعتبر تسخيري وفاته خسارة تخلف فراغا يصعب ملؤه. ومع ان مدير المكتب الصحفي في بطريركية موسكو فلاديمير فيغيلياني رفض الحديث عمن سيخلف الراحل لأن ذلك، على حد تعبيره، لا يجوز أخلاقيا ودينيا الحديث او التنازع على من يخلفه وهو لم يوار الثرى بعد، إلا ان كل التوقعات تشير الى ان كلا من المطران كيريل مطران سمولينينينسك وكالينيجراد الذي رأس لجنة التحضيرات لجنازة وتشييع الفقيد وانتخب رئيسا مؤقتا للكنيسة الارثوذكسية الروسية، والمطران كليمنت (مطران كالوغا) هما اقوى المرشحين لانتخاب خلفه. لكن يظل السؤال: هل يستطيع اي منهما حقا اذا ما فاز بكرسي بطريركية موسكو وعموم روسيا ان يلعب نفس الدور الكبير الذي لعبه الفقيد الراحل اليكسي الثاني؟!

صحيفة اخبار الخليج
15 ديسمبر 2008