منذ مطالع التسعينات الماضية وموضوعة الديمقراطية وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني، وتأمين استقلال الجمعيات الأهلية عن وصاية الحكومات تأخذ حيزاً لا سابق له من الاهتمام. وأُعيد النظر في الكثير من الأطروحات التي كانت تضع الديمقراطية السياسية في مرتبة تالية أو ثانوية بحجة أن المهم هو مواجهة إسرائيل أو تأميل لقمة العيش للناس، أي جرى النظر للديمقراطية بوصفها ترفاً أو أمراً أشبه بالكماليات، والكماليات يمكن تأجيلها طالما الأهم هو توفير الضروريات. الجديد في هذا الموضوع هو تحول العديد من الناشطين السياسيين العرب إلى تبني أطروحة الديمقراطية وحقوق الإنسان بعد أن تعرضت المشاريع الفكرية والسياسية التي يتبنونها للإخفاق أو التراجع، وكثيراً ما جرى اختزال تلك المشاريع المركبة من عدة جوانب إلى أطروحة وحيدة يتيمة هي مسألة حقوق الإنسان. ولسنا في صدد تقويم هذا النوع من التحول، لكن التحول الاجتماعي السياسي في البلدان العربية هو مسألة معقدة ومتداخلة تتشكل من عدة عناصر، وليس من شك أن الديمقراطية السياسية هي أحد وجوه أو عناصر هذه المسألة، لكنها بالتأكيد ليست الوحيدة، وهي إن لم ترد في سياق تصور أشمل عن مستقبل هذه البلدان فلن تكتسب صفة المشروع، وستظل أشبه بالشعار المعلق في الهواء. نقول ذلك دون أدنى تقليل من وزن وقيمة هذه الديمقراطية بوصفها أحد مداخل أو مفاتيح التحول المنشود. هذا الاهتمام بالمسألة الديمقراطية وحقوق الإنسان جلب معه قضية التمويل الخارجي للجمعيات والمؤسسات الناشطة في هذا المجال. ثمة اهتمام دولي ترافق مع سقوط الأنظمة الشمولية في العديد من مناطق العالم بموضوعة حقوق الإنسان. وأخذ هذا الاهتمام شكل تقديم الدعم المالي المباشر من قبل حكومات غربية أو هيئات تابعة للحكومات أو شبه حكومية. ويقال أن جزءاً من هذه المبالغ كان مخصصاً لمحاربة الشيوعية فترة الحرب الباردة، واشتداد حمى الصراع الأيديولوجي بين المعسكرين المتضادين، فلما انهار الاتحاد السوفيتي جرى تحويل هذه المخصصات للهيئات التي طرحت موضوع حقق الإنسان، لكن مسألة التمويل الخارجي فضلاً عن الشبهة التي تثيرها حول نشاط هذه الهيئات جرَت معها تعقيدات إضافية أخرى. فالدول المانحة للتمويل لها أجندة خاصة بها تجاه مستقبل بلداننا، وهي حتى وإن تبنت موضوعة حقوق الإنسان فليس بالضرورة لدوافع خيرة. والدليل على ذلك ان هذه الدول يمكن أن تغض الطرف عن انتهاكات جدية لحقوق الإنسان من قبل حكومات حليفة منساقة لها كلية، وتصعد في الخطاب ضد الحكومات التي تبدي ممانعات من نوعٍ ما تجاه هذه المسألة أو تلك. ثم أن هذه المعونات سمحت بنشوء بعض المستفيدين والمنتفعين والمتسلقين. هل يمكن الفصل بين مسألة حقوق الإنسان والتمويل الخارجي؟ نقول: نعم يمكن الفصل لأنهما قضيتان مختلفتان، وربما متناقضتان. الديمقراطية وحقوق الإنسان في العالم العربي قضية أصيلة، وبحاجة لمعالجة من داخل هذه البلدان ومن قبل شعوبها، أما التمويل الخارجي فلا يمكن أن يكون بريئاً ونزيهاً طالما كان يأتي من جهات خارجية، حكومية أو شبه حكومية، لها أجنداتها الخاصة بها.
صحيفة الايام
15 ديسمبر 2008