استيقظت مدينة بومباي التجارية ولؤلؤة الشرق الآسيوي في التاج الهندي على أصوات انفجارات هنا وهناك، انفجارات توزعت بين محطات القطار وفندقين كان فندق تاج محل التاريخي احد الضحايا هذه المرة، بعد أن كان البرلمان الهندي قبل سنوات ضحية أخرى للهجمات الإرهابية. بعد سقوط الضحايا بدمائهم المضرجة فزعت كل الهند والعالم اجمع نتيجة وجود أعداد كبيرة داخل الفندق، حيث بدأت بالتدريج تتساقط الجثث الواحدة تلو الأخرى بسبب هستيريا أولئك القتلة، والذين لم يعرفوا طريقا للتفاوض والمطالبة بحقوق معينة، وإنما جاؤوا من اجل الانتحار والانتقام تحت حجج واهية، فمن لا يمتلكون برنامجا سياسيا ومطالب مشروعة وحقوق واضحة لا يعرفون إلا الذبح ومن ثم الانتحار النهائي. فكيف استطاعت تلك الزمرة المهووسة الدخول للحدود الهندية؟ وهل اختراق الأمن الهندي أمر صعب في ارض تمتد كالقارة الشاسعة مع خصم مجاور جغرافيا؟ لماذا باتت تلك المجزرة ذاكرة مكررة كأحداث ١١ سبتمبر الأمريكية؟ وهل ستقود تلك المجزرة إلى أزمة سياسية بين الجاريتين باكستان والهند في الوقت الذي تشهد العلاقة دفئا جديدا؟ أسئلة يطرحها المختصون إلى جانب الشارع السياسي الهندي كان من أول نتائجها الاحتجاجية الداخلية هو استقالة وزير الداخلية الهندي الذي تنتظر موافقة رئيس الوزراء الهندي عليها واستقالة رئيس وزراء إقليم مهارشترا وعاصمته مومباي، فقد كان من سبب تلك الهجمة وخسارتها الفادحة تمكن الإرهابيين من اغتيال رئيس مكافحة الإرهاب في المدينة، إذ يبرهن ذلك الاختراق الحدودي المائي ضعف الرقابة الهندية على شريط حدودها في ظل أجواء إرهابية متوترة في مرحلة التفاوض على الأزمة الكشميرية والهدوء المتواصل مابين باكستان والهند على إبداء رغبتهما في حل الأزمة، مما أغاض كثيرا تنظيما متطرفا كتنظيم »عسكر طيبة« الشهير في أعماله الإرهابية والعنيفة والمتكررة ضد مواقع كثيرة في الهند. هذا الاختراق ستنكشف تفاصيله بعد مدة فما أعلنت عنه قوى الأمن الهندية ليس إلا معلومات مستعجلة جاءت على لسان الشخص الوحيد الذي تم القبض عليه فيما مات الباقين وهرب الآخرين فتركوا آثاراً خلفهم يفتش عن أبعادها الأمن الهندي. ونتيجة لهول الكارثة أطلق الإعلام الهندي والأصوات السياسية في الهند على الكارثة تشبيه ١١ سبتمبر الهندي فبدت احتفالات وشموع ومسيرة الجثمان ومناخ الحزن تعبيرا حقيقيا للحزن الإنساني المشترك كلما وقعت مجزرة من هذا النوع، فخرجت كل مدينة بومباي عن بكرة أبيها لتشارك القتلى وعائلاتهم مصابهم الأليم.
ليس المهم هنا إحصاء عدد الضحايا الهنود والأجانب فوقع الكارثة وطريقتها هي ما أثار المشاعر، فقد اعتادت الهند الكبيرة على سقوط ضحايا كثر لحوادث سكك القطار وفيضانات المواسم الاستوائية، ولكنها كثيرا ما مرت دون ضجيج كجزء من قدر الهند، ولكن بشاعة المأساة هي ما ترفضه ثقافتهم المتسامحة والبعيدة عن فلسفة العنف ونهجها.
ما تشهده الهند من انفجارات صغيرة ومستمرة دليلا على إن الأمن الهندي غير قادر على ضبط تلك البلد الشبيه بقارة، خاصة وان ملامح الإرهابيين شبيهة بملامح وسحنات الهنود، كما إن اتساع الحدود بين الطرفين الهندي والباكستاني ووعورة الجبال وامتداد الشواطئ يجعل من الاختراق الحدودي أمرا سهلا. فهل بإمكان وزير داخلية جديد القدرة على أداء مهماته بيسر؟ اعتقد إن ذلك أمرا صعبا إن لم يتعاون الطرفين الهندي والباكستاني معا في ملاحقة الإرهاب، خاصة وأن باكستان هي المصدر وبلد المنشأ وبحاجة الهند لقطع دابرهم من الأساس قبل وصولهم إلى تربته، وذلك لن يتحقق بجهود الأمن الهندي وحده. لقد اعتادت الهند أن توجه أصابع الاتهام لكل حادث إرهابي إلى باكستان وبدلا من توجيه اللوم على تلك العناصر الإرهابية المتخفية، تسعى الصقور الهندية لقلب الطاولة وتعقيد تلك العلاقات الهندية – الباكستانية والتي تمر بمرحلة الاسترخاء والتعاون في مكافحة الإرهاب، فقد بات العدو المشترك للبلدين. لا احد ينكر إن باكستان ونتيجة تتالي الحكومات مرت عليها أجهزة أمنية متورطة في تعاونها مع تلك الحركات المتشددة، غير إن ذلك لا يمنع من كونها مرفوضة من حكومة زارداري الجديدة، والتي سبق لبنظير بوتو إن وجهت لها أصابع الاتهام مباشرة، فكانت ضحية لها ولحركاتها العنيفة. ولن تنفع تبادل الاتهامات في هذه الظروف الصعبة للبلدين، وإنما بالجلوس معاً وبكل هدوء للمسك بخيوط الجريمة قبل أن تفلت من يد الطرفين. ولن تنفع عبارات أن المهاجمين لإحداث بومباي تدربوا في احد الجزر الباكستانية، فذلك لا يمنع أنها تدربت بعيدا عن عيون الأمن الباكستاني، مثلما بإمكان منظمات إرهابية أن تتدرب في الهند الشاسعة وتهاجم ولاية أسام وغيرها بقنابل قاتلة. وإذا ما تبعت الخارجية الهندية سلوكا عاجلا يرضي في الأمد القريب غضب الشارع الهندي والاستقالات المتكررة، فان الحقيقة تؤكد إن الهدوء والعقلانية هي بعودة العلاقات الدافئة بين الشعبين والبلدين وهو الخيار الواقعي لمعالجة كل الأزمات العالقة ومن أهمها كشمير ومكافحة الإرهاب في الضفتين وملاحقتهما داخل أفغانستان بسبب التداخل والتعاون بين تلك الحركات المتشددة.
صحيفة الايام
14 ديسمبر 2008