بدأت القصة – وهي فعلاً قصة تستحق أن تُروى وأن تُشبع نقاشاً وتحليلاً معمقاً ومفتوحاً لأنها تحولت إلى ظاهرة شائعة وعامة قبل أن يستفحل أمرها وتتحول إلى قضية كبرى شائكة باتت اليوم تتحكم في صياغة مستقبل العرب على أرض البسيطة ليس في هذا القرن وحسب وإنما في الزمن الذي سيليه.
إنها قضية صعود وازدهار ظاهرة التطرف الديني والعنف والإرهاب الموازيين لها في العالم العربي في السنوات التي تلت زلزال الثورة الإيرانية وتوابعه وارتداداته التي لم توفر بقعة عربية واحدة.
نقول إن القصة بدأت مع اعتماد الجماعات الإسلامية الأعمال الخيرية كإستراتيجية لبناء هياكلها التنظيمية وتوسيع نفوذها بالتمدد الجغرافي الداخلي، حيث تم التخفي وراء عشرات الواجهات الخيرية من صناديق وجمعيات وحملات وبرامج موسمية ودورية، لكنز ومراكمة رؤوس الأموال والثروات التي سيتم الاعتماد عليها لاحقاً لإطلاق المرحلة الثانية من إستراتيجية السيطرة على مفاتيح التطور والتقدم في المجتمعات العربية، وهي المرحلة الدعوية المتمثلة في استغلال كافة المنابر التي أتاحتها لها الحكومات للتمدد وإنجاز عملية التأسيس والتكوين واستقطاب الأنصار من جموع الدهماء اللاهثة أبداً واضطراراً وراء لقمة العيش.
ولأنها تنطلق من مدارس دينية (أيديولوجية) مختلفة، وبمحركات مصالح متباينة، وبعد أن ‘استتب’ لها الأمر، فإن هذه الجماعات الإسلامية راحت تتنافس بشراسة فيما بينها على بذر بذور ونشر رموز الدولة الدينية المفصلة على مقاسات كل منها، فكان لابد وأن يستدعي هذا التنافس والتكالب في تثبيت رايات كل منها على المواقع المتاحة والأخرى المتنازع عليها، تضاداً وتنازعاً مكشوفاً ومفضوحاً، استدعى، بدوره، في بعض الحالات المستعصية تدخلاً للدولة لحفظ الهيبة والنظام.
وهكذا وجدت مجتمعاتنا العربية نفسها وجهاً لوجه أمام حالة مستجدة تجمع في ثناياها العناصر الأساسية لعدم الاستقرار واللايقين المستقبلي.. مجتمعات ترى بأم أعينها كيف تتمترس أجزاء المجتمع الواحد في مواجهة بعضها بعضاً، وكيف يتنادى فرقاؤه المنقسمون ويتبارون على تكديس ‘البارود’، وكيف تتسابق الصقور هنا وهناك على الإيقاع بفرائسها، واصطيادها!
ومع ذلك لا تملك هذه المجتمعات التي أخذ منها التدجين مأخذه، أن ترد عنها كل تلك التربصات بالغة الأثر والخطر. فهي بعد طول هذه السنوات من التوطين (على نمط حياة محدد) والتنميط، ما عادت تجيد سوى وظيفة ‘المشي جنب الحيط’ والسعار الاستهلاكي (‘لفش الخلق’ ربما)، حتى تحول هذا الأخير إلى طقس كهنوتي هو الآخر قائم بذاته، فتساندت المقاربتان ببعضهما البعض واستأنس بهما الجميع (تأسياً ومواساة ربما) وبرفقتهما وصحبتهما حتى انكفأ (الجمع) فيما يشبه الصومعة التي لها قوانينها ‘الداخلية’ الخاصة التي تحكم إيقاع النمط الدائري للحياة، فيغدو الجميع تروساً مثلومة في آلة يتهددها الصدأ بفعل ‘عوامل التعرية’ والتقادم المُهْمَلْ.
وقد دشنت هذه ‘المرحلة’ من السنوات العجاف التي تلت الانكسارات الوطنية والقومية وفي مقدمها هزيمة يونيو (حزيران) ,1967 دخول المجتمعات العربية فترة من الكساد في الحراك السياسي والثقافي والاجتماعي ‘تواطأت’ عدة عوامل لتمدد فاصله الزمني لسنا الآن في وارد تقليب صفحاتها، وإن اقتضى الأمر الإشارة سريعاً إلى حجم الضغوطات الهائلة التي مورست على أطر وفعاليات مشروع بناء الدولة العربية الحديثة من طرف أجهزة السلطة المتذبذبة بين خيارات التمدين والتديين، والانقلاب الذي أحدثته السياسات الاقتصادية المنفلتة العقال منذ أواسط سبعينيات القرن الماضي على أنساق القيم المجتمعية وعلى الشخصية العربية ترتيباً.
فكان أن أصبحت الساحة العربية قفرة نسبيا على الأصعدة المنوه عنها آنفاً، إلا من تدافع الحركات الإسلامية من جميع الأجناس والأطياف، حيث صارت نهباً لها ولتكالباتها المحمومة للسيطرة على مجتمعاتها التي أضحت مكشوفة أمام اجتياحاتها ‘وغزواتها المظفرة’ والناجحة، حتى الآن، في قضم ما هو متاح لها قضمه من أجزاء متاحة لها عن قصد ومن دون قصد (نتيجة لشيخوخة وترهل المؤسسة ربما) بهدف إحكام السيطرة على مقدرات المجتمعات التي ما من شك أنها لم تعد تكترث بما يدور حولها من أحداث ومن صراع ديكة تُستخدم فيه أحدث أنواع أسلحة حروب البسوس العربية الجديدة المتجددة، وفي مقدمتها دعوات وأحكام التكفير والإقصاء وإصدار الفتاوى ذات النكهات العجيبة المختلفة، والتباري الأيديولوجي المذهبي على كسب معركة هوية الدولة الدينية (شكلاً ومضموناً) المستل برنامج إقامتها من الأجندات غير المعلنة، والتي يمكن مشاهدة وتلمس قسماتها وعلاماتها ورموزها في الشارع وفي مواقع العمل وفي الفضائيات والبرامج الإذاعية وفي الصحافة وأجهزة الميديا الحديثة من شبكة إنترنت وهواتف محمولة وغيرها.
والمفارقة أنه قبالة هذه الموجة من الغلو الديني المؤدلج سياسياً ومذهبياً وقبلياً، وغير المسبوق في التاريخ العربي الحديث، نجد في الجهة الأخرى جنوحاً متطرفاً نحو الابتذال والإسفاف الشنيع الذي صار يزاحم بعضه على فضائيات العرب سات والنايل سات بدفق منهمر من الوجبات السمجة المقدمة باسم الفن تارة، والتعارف تارة أخرى، والصحة والدجل تارة ثالثة، والتي لا يكاد سيلها ينقطع على مدار الساعة.
إن رأس المال الذي لا يوفر وسيلة أو حيلة في تسويق منتجاته في الجهتين، هنا تحت يافطة التدين والورع والتقوى، وهناك تحت يافطة الترفيه والتسلية بل وباسم الفن أيضاً!
وفي هذا الخضم المتلاطم من التشويش والتهويش والتشويه، تقف المجتمعات العربية حائرة، لا حول لها ولا قوة ، بشأن مستقبلها الذي يتجاذبه مشروع دولة مدنية حديثة من جهة ومشروع دولة دينية يشق طريقه بثبات، على غير العادة، بعد أن توارت إلى الخلف مشاريع النهضة الواحد تلو الآخر.
الوطن 13 ديسمبر 2008