حين يرد اسم ناظم حكمت ترد تركيا، إننا غالباً ما نسبق اسمه بالوصف التالي: الشاعر التركي. ولكن ناظم حكمت أصبح تركياً منذ سنوات قليلة فقط. قبل ذاك لم يكن الشاعر الذي مات في صقيع المنفى بعد سبعة عشر عاماً قضاها في سجون تركيا يحمل جنسية بلاده، حيث كانت السلطات قد أسقطتها عنه منذ حوالي نصف قرن. ومضت عقود، تعاقبت فيها على تركيا حكومات مختلفة في ذلك التناوب الرتيب بين حكم العسكر وحكم المدنيين، لكن حكومة من هذه الحكومات لم تتذكر أن أهم شاعر في تركيا في القرن العشرين قد نزعت عنه جنسية وطنه. منذ سنوات فقط تذكرت تركيا ذلك وقررت الاستجابة لمبادرة أطلقها مثقفون أتراك للمطالبة بإعادة الجنسية إلى الشاعر الذي عرفه العالم كله.
من يتجرأ على سجن الشاعر أو نفيه عن وطنه؟ ولكنهم يفعلون!..
في شغب الشاعر وجماله أمر مقلق، ورغم أن الشاعر يسكن عادة في المخيلة، لكن مخيلة الشاعر مقلقة لأنها تنشأ على ضفاف الحلم. والحلم، كما الشعر، ممنوع حين يعم الظلام. في شهادة لزوجته، قالت إن ناظم حكمت كان يصحو كل صباح ليذهب راجلاً إلى مبنى البريد تسقطاً للرسائل المقبلة من الوطن البعيد تحمل أخباره. وكانت تلك الأخبار زاداً وملهماً وباعثة على الدفء في برد الروح الذي يجتاح المنفى. وفي صباح أحد أيام صيف عام 1963 خرج إلى مشواره اليومي نحو البريد، لكنه لم يعد. لقد سقط ميتاً في الشارع وهو في طريقه متلهفاً إلى رسائل الوطن. بين الشعراء وصندوق البريد علاقة قدرية. أذكر تلك المشاهد العبرة في فيلم ” ساعي البريد ” الذي يروي جانباً من حياة الشاعر التشيلي بابلو نيرودا في المنفى بإيطاليا. كان الشاب الغر ساعي البريد يحمل في كل صباح رزمة من الرسائل إلى الشاعر الكبير التي ترده من قرائه وقارئاته من الوطن البعيد حيث أدرك الشاب أن من يحمل إليه البريد يوميا هو شاعر كبير وحائز على نوبل أيضاً رجاه أن يعلمه الشعر، قال له أريد أن أصبح شاعراً، وحين سأله نيرودا عن السبب، أجاب لأنني أحب فتاة جميلة، وأريد أن أكتب لها شعراً، وكان رد نيرودا بسيطاً ومعبراً ومكثفاً: إن الحب هو قصيدة شعر. ونيرودا لم يمت في المنفى كناظم حكمت لقد عاد إلى وطنه وعاش ربيع الديمقراطية وخريفها أيضاً. ذات صباح أطبق العسكر على السلطة وقتلوا الرئيس المنتخب صديق الشاعر سلفادور الليندي. قدر القلوب الكبيرة أن يموت أصحابها كمداً في أوطانها أو في المنفى. ليست السيرة الجليلة لكبار الشعراء العرب بمختلفة عن هذا السياق من المتنبي وأبي فراس الحمداني وصولاً إلى الجواهري الكبير. أوطان عاقة، جاحدة، تتنكر لأجمل وأعذب أبنائها، تقذف بهم في منافي الصقيع البعيدة هناك على آخر وأبعد الثرى يموتون ويدفنون. وتمر سنوات طوال، عقود متوالية حتى تتذكر هذه الأوطان إن فلذات من كبدها مدفونة في البعيد. وفيما تتنازع أمم وشعوب على أن تنسب هذا الشاعر أو ذاك إليها ، فإن أوطان الشرق تتفنن في إعلان البراءة من الشعر ومن الجمال، بأن تسقط حقوق المواطنة عن شعرائها ومثقفيها وتطوح بهم في المنافي.
الأيام 13 ديسمبر 2008