المنشور

عبدالله الغذامي والنهضة (1)

تعتبر مسيرة الحداثة في المملكة العربية السعودية ملحمة كبيرة ، فذلك البلد الفقير، المفتت، القابع في زاوية العالم، في الصحراء القاحلة ، يقفز فجأة إلى مقدمة صفوف الدول النامية، ويغدو بلداً مركزياً في المنطقة.
فلابد في هذه العاصفة الحضارية من أن يتقلب الوعي بين نصوصية شديدة إلى انبهار شديد بالحضارة الغربية، فكل الماضي العريق البسيط لا يسعفهُ في تأويل هذه الصيغ المركبة للتقدم، ويغدو النقل أسهل شيء، وسواء عبر النقل الأشد نصوصية من الماضي، أم بالنقل المنبهر بالغرب وإيجاد تطبيقات منه على واقع مختلف.
ولدينا في الجزيرة العربية والخليج ظروف معقدة وأبنية ثقافية غير مدروسة، فأغلب ما يوجد هو نقد أدبي أو تحليلات فكرية ربما كانت عميقة ولكنها لا تدرس تجربة الخليج كتجربة ذات بـُنى اجتماعية خصوصية، تحتاج من الوعي الفكري إلى الغوص فيها واستبصار مساراتها، وقد ركز الأستاذ عبدالله الغذامي في النقد الثقافي العربي عموماً، ولم يخص منطقة الخليج والجزيرة إلا بكتابين، سنبحث فيهما عن رؤيته لتطور المنطقة وكيفية نهضتها.
في كتابه (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية)، يأخذنا الباحث عبدالله محمد الغذامي إلى رؤيته لعملية الانتقال المعقدة، فهو منبهرٌ بمصطلح (الحداثة) يرددهُ طوالَ صفحات الكتاب، معرفاً إياها بأنها (التجديد الواعي)، ويقول إن له ريادة في صنع هذه الحداثة بشكلها الفكري الصاعق، مما ترتب عليها معارك فكرية واجتماعية حادة.
فقد وُوجهت هذه (الحداثة) بعنف، فيقول:
(إذاً نحن أمام محافظة تعبرُ عن نفسها بطرق عديدة فتقول بضرورة النموذج التقليدي وتربطهُ بالدين والوطنية والأصالة، وتقول بالحداثة الشكلية اللافكرية وتربط الحداثة والفكر الحداثي باليهودية وتخون أصحابها، ولقد خوننا المليباري مثلما خوننا البازعي، وكلاهما صوت نسقي يعبرُ عن الثقافة المحافظة كل بطريقته..)، (حكاية الحداثة في المملكة العربية السعودية)، عبدالله محمد الغذامي، المركز الثقافي العربي سنة 2004، ص 8).
هنا تحديد للذات الجالبة للحداثة، وتحديد للخصوم، والمعسكران واضحان، فثمة معسكر للتحديث ومعسكر للمحافظة، ويستخدمُ المعسكرُ المحافظ مصطلحات محددة مثل: الدين، والوطنية، والأصالة، ولكن معسكر الحداثة الذي يمثله الغذامي هنا، يعيد اتهامات الفريق الآخر الذي يتهم فريق الحداثة بالحداثة (الشكلية اللافكرية) وهو اتهام يحتاج إلى بحث طويل.
فالغذامي حسب هذا الكتاب يقومُ بدحضه، معبراً عن كون حداثيته وطنية، فهو يقيّمُ بشكلٍ إيجابي تطور المملكة العربية السعودية في مسارها التاريخي من (حيث تأسيس الهجَر وتوطين البادية بوصف ذلك خطوة رمزية للتحول من النسق القبلي إلى نسق مدني مأمول مفترض)، و(تأسيس نظام للإدارة تحول معه تقاليد الحياة من الشفاهية إلى الكتابية، ويتأسس نظام للعمل تحكمه قيم العمل والإنتاج كما هو مفترض)، و(إنشاء علاقات مع الدول الأخرى، بما فيها دول أجنبية لها صورة المعادي تاريخياً..)، (السابق، ص 42).
أي أن رؤية التحديث الغذامية لا تنكر جذورها الوطنية، وتسعى نحو مزيد من التقدم، وتعود الأسس السابقة لعموميات سياسية فهي خطوط عريضة لكيفية نمو اتجاه الدولة، ولكنها لا تتعلق بتطور الوعي في هذه الدولة، أي ما هو موقف (الحداثة) من الإرث الديني ومن التطورين السياسي والاجتماعي؟ وهذا جانب سيغدو حجر الزاوية في الصراع الفكري المعروض حسب حيثيات الكتاب.
إن ثمة هوة هنا بين تأييد مسار الدولة وتغييب إرثها المعتمد كأساس للمجتمع وعدم قراءة صراعاتها الاجتماعية والسياسية. وهذه الهوة لا تــُبحث، والمسكوت عنه هنا ذو قيمة بالغة، إن لم يكن هو الذي يحمل مشكلات الصدام وعدم الفهم المتبادل بين المحافظين والحداثيين.
يعرض الغذامي الصراع بالشكل التالي:
(على أن الصفة الجذرية في الثقافات المحافظة والتقليدية هي في تغليب السكون وإيثاره، والسكون يعطي راحة واستقرارا وتسليماً فطرياً)، (السابق، ص 30).
في حين ان الحداثة بما أنها حركة اجتماعية (هي اضطراب غير طبيعي، وسيكون مضاداً للسكون النسقي). (ونحن لو تمعنا تاريخنا الثقافي (العربي كله) لتبين لنا بسهولة أن الوازع السكوني هو الغالب على نظام رؤياتنا للحياة وللزمن) .
تعبرُ هذه المصطلحات عن القاموس التحديثي الغذامي، فثمة سكون وحركة، وهذا ينطبق على موسيقى الشعر كما يقول، وينطبق على الحياة الاجتماعية، ففيها سكونٌ يرفضُ أن يغادرَ ذاته، وفيها حركة تأتي على غير النظام الطبيعي السائد السائر طوال الزمن.
يتحول تاريخ المجتمعات هنا إلى تجريد: سكون/ حركة، وهذا التجريدُ عامٌ ينطبقُ على الطبيعة وينطبقُ على الأصوات، كما ينطبق على تاريخ الثقافة والتاريخ الاجتماعي سواءً بسواء، من دون أن نعرف عبر هذا التعريف إن للحركة مستويات مختلفة، فحركة موسيقى الشعر هي غير الحركة الاجتماعية، فالحركة الاجتماعية أكثر تعقيداً، ولها قوانين تنتمي إلى مستوى آخر، هو قوانين الأبنية الاجتماعية.
لكن توجه حداثة الغذامي تساير عملية التحول التحديثية الموضوعية الجارية في المملكة: (وليس من السهل أن تنتقل إلى مجتمع سياسي وإداري موحد تحت بناء الدولة، وهذا يتطلب وعياً بمفهوم (الدولة) وشروط بنائها) ولكن مسار الدولة لم يكن بالشكل التحديثي المطلوب، (وكانت التمردات هي الديدن العام للحياة، وعمل الحاكم الأول والدائم قمع التمرد، وضبط الطاعة، وجباية الأموال، ولا شيء غير ذلك)، (وهذا ليس نظام دولة ولا نظام حياة، (السابق، ص 41).
لكن الباحث يتوقف عند هذه العموميات من التحليل حيث لا يدخل في تحليل طبيعة الدولة وكيفية تطور المدن وكيف تم توزيع الثروة، وهذا أمرٌ يدخل في اختياراته العامة النقدية كذلك.
ولديه أن الحداثة أفكار عامة لا ترتبط بتكوينات الفئات الوسطى وبحث نموها، ولهذا حين يأتي لشخصية ثقافية كما في كتابه (الخطيئة والتكفير) فإنه يدرسه كتكوين ثقافي ويسقط عليه مقولات من ذاته، وليس من تطور الشخصية وصراعاتها الحقيقية، كما سنرى لاحقاً.
ولو قرأنا مقولتي السكون والحركة اجتماعياً، فلابد من تحليل الجماعات التي تسكن وتجمد التطور الاجتماعي، وسببياتها في ذلك، وهل تتحرك للتغيير وما اسباب ذلك؟ ولماذا تعادي التغيير إذا كان ذلك كذلك؟
إن مقولتي الحركة والسكون تغدوان مجردتين وهي طبيعة تجريدية إسقاطية لمنهج الباحث.
إن الذي يفسر الحراك هو تطور المناطق والقوى الاجتماعية المختلفة وارتباطها بأساليب عيش جديدة ومدى تغييرها لوعي الماضي المعرقل لتطورها.

صحيفة اخبار الخليج
11 ديسمبر 2008 
 

عبدالله الغذامي والنهضة (2) 
 
إن محور كتاب الأستاذ عبدالله الغذامي (الخطيئة والتكفير) يتوجه لتحليل شخصية ثقافية سعودية مركزية، وكانت الفكرة تخامرهُ أثناء دراسته، لكنه لم يجد (القالب) إلا بعد تقصٍ خاص، فكانت هناك شخصية ثقافية مهمة في تاريخ المملكة خلال القرن العشرين هي شخصية (محمد حسن عواد)، يقول عنها كاتب سعودي آخر:
(ولا نزعم أن العوادَ قد نجح في تطبيقاته لما نظـّرَ لهُ لكن صفة التجريب هي التي تميزهُ عن غيرهِ، من أبناءِ جيله، وتنزلهُ اليوم منزلة الرمز الشامخ في تاريخ الأدب السعودي في تفتح عقله، وفي رؤيته الطليعية وإخلاصه لآرائه ومبادئه)، (مؤثرات الإقناع عند محمد حسن عواد، عبدالله حامد المعيقل، مجلة علامات، يونيو 2004)، وإضافة لدوره الأدبي فهو ذو دور اجتماعي مساند للنساء والحركة الاجتماعية عامة، ويقول دارسٌ آخر في العدد نفسه إن قصائد عواد كانت تطلقُ شررَ جذوة التجديد، (راجع نهار التجربة لأحمد بن صالح الطامي).
وأمام شاعر وكاتب مشتعل بجذوة التجديد وله ممارسة مستمرة في الجدل مع الواقع فإن الناقد الغذامي تكون خياراته البحثية مختلفة، فيقول:
(وكنتُ أبحثُ عن شخصيةٍ تتمثل فيها مقولاتي النقدية وكان خياري الأول هو العواد، غير أن فحصي لأعمال العواد لم يكن يشجعني على المضي، إذ لم أجدها تستجيب لتعقيدات التأويل النصوصي لضعف في عمقها يجعل دلالاتها سطحية ولا تحتاج إلى لعبة التأويل. ولذا فكرتُ في شحاتة كبديل محتمل، وحينما بدأتُ البحث فيه وجدتني أكتشف قيمة أدبية / ثقافية مجهولة فعلاً. وصار كتابي عنه، (حكاية الحداثة، ص 60).
يقول إنه كان يبحث عن شخصية تتمثل فيها مقولات (ه)، لكننا حين نتفحص كتاب (الخطيئة والتكفير) نجد أن هناك مقولات جاهزة مستوردة لديه وبه جموحٌ عاطفيٌ شديد لكي يطبقها، ويتضحُ ذلك من ضخامة المقدمة المفترضة التي يسردُ فيها آراءَ المدارس الحداثية الشكلانية والألسنية فهي تمتد لثلث الكتاب من ص 9 حتى .135
سوف نقرأ بعضَ الفقراتِ والجملِ التي تحددُ منهجَهُ بشكلٍ عام، يقول:
(والأسلوبية تركزُ على اللغةِ لذاتها لا لما تحملهُ من دلالات، لأن هذه من الممكن إبلاغها بطرقٍ كثيرة غير طرق اللغة الأدبية). (والشاعر ليس شاعراً لما فكر فيه أو أحسه ولكنه شاعر لما يقوله من شعر. ليس خلاق أفكار بل كلمات، فعبقريته تكمن كلها في إبداعه اللغوي…).
إن هذه اللغة تقيمُ تناقضاتٍ غيرِ جدليةٍ لا تقبل التركيب، فاللغة ضد الدلالة، والشعرُ ضد الفكر، والأفكار ضد الكلمات، وهذه المتضادات المنهجية ستتجسد في البناء النقدي.
يقول كذلك:
(وخير وسيلة للنظر في حركة النص الأدبي، وسبل تحرره هي الانطلاق من مصدره اللغوي، حيث كان مقولة لغوية أُسقطت في إطار نظام الاتصال اللفظي البشري، كما يشخصها رومان ياكوبسون في (نظرية الاتصال) وعناصرها الستة، التي تغطي جميع وظائف اللغة، بما فيها الوظيفة الأدبية)، (الخطيئة والتكفير، المركز الثقافي العربي، طبعة 2006، ص 10).
وبعد ذلك يعدد ما يقوله رومان ياكوبسون في نظرية الاتصال حيث يتم الاعتماد على (السياق) وهو سياق يتم فيه إنشاء مادة القول، ثم هناك (الشفرة ) وهي الخصوصية الأسلوبية لنص(الرسالة)، ثم هناك (وسيلة الاتصال)، وهناك (مرسل) و(مرسل إليه).
ويختمُ ذلك قائلاً:
(وكل قول يحدث إنما يدور في هذه المدارات الستة مهما كان نوع ذلك القول السابق)، (ص 11).
وبطبيعة الحال فإن (خير وسيلة هي الانطلاق من مصدر…) النص الأدبي، لكن ليس لتحرره، بل لغناه، ولكشف أعماقه، فالنصُ لا يتحرر بالقراءة ولا يُشطب من حركية الواقع، بل تـُكتشف قدرته على قراءة الحرية في الحياة وبذا يغتني ويغني القراء.
إن الستة العناصر السابقة الذكر تذوب في لغة الحماسة بل جميع النظريات التي احتشدت بكثافة كبيرة في الصفحات الكثيرة السابقة، وتظهرُ فجأة ستة عناصر أخرى تغدو هي السرير المعد لتشريح النموذج:
(ذكرنا في الفصل الأول أن نموذجنا الدلالي لأدب حمزة شحاتة يقومُ على ثنائية (الخطيئة – التكفير) ويرتكز على ستة عناصر لكلِ عنصر دلالة نفسية وفنية واسعة الأبعاد. وهذه العناصر هي :
1- آدم ) الرجل/ البطل) البراءة
2 – حواء (المرأة / الوسيلة) الإغراء
 3 – الفردوس (المثال / الحلم)
4 – الأرض (الانحدار/ العقاب )
5 – التفاحة (الإغراء / الخطيئة)
6 – ابليس ( العدو / الشر)، (السابق، ص 134 – 135).

حدثت هنا نقلة كبيرة من السياق الأدبي اللغوي إلى السياق الحكائي، فكان يُفترض قراءة السياق الشعري لأدب الحجاز في الفترة بين نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، فهذه اللحظة التاريخية النهضوية هي التي شكلتْ السياقَ الشعري، وجاءت كتابة حمزة شحاتة وحسن عواد وغيرهما من الأدباء المجددين وقتذاك لتضيف فيه وتغنيه بنوعية أخرى، بحيث نصل إلى اكتشاف (شفرة) حمزة شحاتة المقصود بالتحليل، وندرس بقية العناصر.
لكن الباحث لم يحول آراء نورمان ياكوبسون في نظرية الاتصال إلى نظرة نقدية مطبقة، بل وجدنا عناصر الحكاية الدينية توضع لتنزع حمزة من السياق الواقعي، وتدخلهُ في السياق الفنتازي، فيغدو حمزة شحاتة هو رمزية آدم، الذي نزل للأرض، وكانت خطيئتهُ الوثوق بالمرأة، فكفـّر عن نفسه بالطلاق والعزلة وحرق كتاباته الخ.
لكن الكاتب لا يستطيع أن يخلق مقاربة بين آدم في القصة الدينية وشحاتة، وهو مضطرب حائر فيما ينشئه من كتابة، فيقول:
(إن هذا الشخص رجل لا يهمنا أبداً، وهو مجرد فرد من البشر عاش في زمن معين وفي بقعة محددة، وينتهي كنهاية أي مخلوق آخر ويصير أمره لبارئه)، ( السابق، ص 135).
إن هذه الجملة تحاول أن تقول لنا إن الباحث سوف يقوم بالتغاضي الكلي عن سيرة الشخصية المحلــلة، من أجل أن يتسق مع بعض مقولاته السابقة حول (النص) الذي يمتلك بنيته المستقلة كليا، لكن لا يحدث التوجه لدراسة هذه البنية بل لتنهمر علينا سيرة حياة الرجل الراحل بكل تفاصيلها، فهناك شهادات من ابنة النموذج، وهناك تفاصيل نشأته وتعلمه ونشاطاته ورحيله للقاهرة وعزلته الخ.
حين (يجرد) الباحثُ قصة النشأة الإنسانية إلى آدم وحواء والجنة والسقوط الخ، فهو يقيمُ بنية تجريدية غيبية، يرمزُ لها بشخوصٍ وحكاية، تتشكلُ كلها في التجريد الغيبي، وتنقطعُ صلاتها بجذور نشأتها، أي جذور تلك الحكاية، بأصولها في الزمن القديم، من حيث تكون عناصر بنائها القصصي في التوراة والانجيل وفي السرد البابلي الأقدم، فلا نعرف الجذور المرتبطة بالانقطاع عن بنية مجتمع قديم ودخولها في بنية مجتمع وسيط، وكذلك لا نعرف سياق هذه الحكاية في المنظور الإسلامي ودلالاتها، بل يتم أخذها لدى الباحث في صياغةِ عناصرها المجردة: آدم، وحواء، وابليس، والسقوط الخ.
فلكلُ سياق من تلك السياقات السابقة شروطه، وحين يتم قضم كل تلك الجذور، ومن ثم توضع على سرير شحاتة النموذج النهضوي السعودي، فهي هنا تقوم كذلك بقطع تكون بنية نص شحاتة، فإذا كان التجريد لآدم – حواء، هو بداية لشخص الذكر والأنثى في كل مجتمع، فالذكر والأنثى في الحجاز في تلك العقود التي تكون فيها حمزة وتزوج لهما سياقهما الخاص، لكن الباحث راح يأخذ ذلك المجرد ويركبهُ بالقوة على نموذجه.
أخبار الخليج 12 ديسمبر 2008
في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
إن يوم العاشر من شهر ديسمبر.. هو يوم مضيء في صفحات التاريخ.. بحسب ما يظل محفورا في ضمير الشعوب.. وماثلا في وجدان جميع طالبي الحرية والكرامة الإنسانية على وجه البسيطة.. إنه اليوم العالمي في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي يمثل الركيزة الأساسية في مناصرة المضطهدين والمسودين والمعذبين والمسحوقين، بتحرير أياديهم وفك أقدامهم المقيدة بالسلاسل والأغلال.. بقدر ما يخضع شرائح الأسياد الطبقية، ومن فيها المستبدون الأوليجاركية، إلى مجهر المساءلة الشعبية وإلى منظار المحاكمة الجماهيرية، من خلال الأقلام الحرة والكلمة الشجاعة، وعبر البيانات الوطنية المبدئية، والندوات والمؤتمرات التاريخية..
تمر الذكرى الستون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صدقت عليه “هيئة الأمم المتحدة” في العاشر من ديسمبر عام 1948. هذه الذكرى المقدسة.. تحتفل بها الشعوب المناضلة بمعارضتها الوطنية، ومختلف أحزابها التقدمية والديمقراطية والماركسية.. مثلما تحتفي بمفاهيمها منظمات حقوق الانسان المحلية والعربية والعالمية، وفي مقدمتها “هيئة الأمم المتحدة”.. وبحسب ما جاء هذا الإعلان العالمي تجسيدا للثورة الفرنسية عام 1789م.. وانعكاسا للمبادئ الأممية الثورية، التي أرسى دعائمها الفيلسوف والسياسي والاقتصادي المناضل “كارل ماركس” خلال أصول الفلسفة الماركسية.. فان هذا الإعلان بيومه العالمي جاء ليكشف فضائح الأنظمة الرأسمالية الاستعمارية، وعلى رأسها بريطانيا، التي هي أساس البلاء ومحور الكارثة في اقتلاع شعب فلسطين من أرضه، وتشريده من وطنه.. حينما نسجت أقذر المؤامرات ضد شعب فلسطين مع شتات ومافيا الصهيونية.. منذ وعد وزير خارجيتها “آرثر بلفور” المشئوم عام 1917م، مرورا بالانتداب البريطاني المذموم عام 1924م، وتتويجا بالنكبة عام 1948م عن إعلان إقامة دويلة الكيان الصهيوني في ليلة 15 مايو عام 1948م، وما تمخض عن ترسيخ تداعيات النكبة من التشريد والتهجير والاستيطان والتهويد والتمثيل بشعب فلسطين أبشع تمثيل بأحدث الأسلحة الأمريكية.. هي الأخرى في ظل إدارة “جورج بوش” المجرمة، قد غزت العراق، واحتلت أراضيه، وانتهكت حضارته، وجزأته إلى كانتونات وأشاعت فيه الفوضى والفتنة والطائفية والمذهبية.. ونهبت خيراته، وسرقت مقدرات الشعب العراقي.
لعل القول يبقى صحيحا هو حينما اخترقت الدول الغربية وفي مقدمتها بريطانيا وأمريكا سيادة الدول والشعوب العربية خاصة وشعوب دول العالم الثالث عامة.. فإن أنظمة دول العالم الثالث، قد لا تختلف سياساتها الاستبدادية عن سياسات الدول الغربية الاستعمارية والكولونيالية.. طالما الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أماط اللثام عما تنتهكه هذه الحكومات بحق شعوبها لما تعانيه من أبشع القهر السياسي والاضطهاد الاجتماعي، ومكابدتها من تكميم الأفواه بمصادرة حرياتها السياسية، ومعاناتها من شد الأحزمة على البطون في ظل غياب العدالة الاجتماعية.. ناهيك عن محاولة هذه الحكومات الاوتوقراطية كسر أقلام المعارضين والمثقفين والرموز الوطنية، وقمع كلمتهم، خلال الملاحقات والمساءلات الأمنية والبوليسية أحيانا.. والزج بهم في غياهب السجون والمعتقلات في أحايين كثيرة.. في ظل أنظمة دكتاتورية فقدت ماء الوجه، وداست على الكرامة، وأهانت الهوية، واستمرأت الحماية الأجنبية واعتمدت الاتفاقيات الأمنية والعسكرية مع الدول الغربية، وصادرت حريات التعددية، وهمشت الدستور، وأهانت العقد الاجتماعي، وغازلت تنظيمات قوى تيار الإسلام السياسي، بإقامة الصفقات والاتفاقيات المتبادلة المصالح، ما بين التيارات الإسلامية والسلطات التنفيذية، بتحالفهما في مواجهة قوى التيارات التقدمية والديمقراطية.. ومثلما تسعى تنظيمات التيارات الإسلامية إلى إقامة الدولة الإسلامية القائمة على النص والحاكمية والمراجع الدينية.
إن العديد من قيادات وحكام الأنظمة العربية، قد حثت الخطى إلى مراجعة وتعديل الدستور بما يسمح بتمديد فترة رئاستها لفترة ثالثة وولاية رابعة، بل مدى الحياة.. بقدر ما سعى هذا الرئيس أو ذاك الرئيس الآخر إلى إعداد أبنائهم لخلافتهم، بتوريث الحكم والاستئثار بكرسي السلطة.. ولكن في نهاية المطاف لا يسعنا سوى القول إن يوم العاشر من شهر ديسمبر، يمثل عزاء لطبقات المضطهدين والمعذبين في الأرض.. بحسب ما تجسد الذكرى الستون للإعلان العالمي لحقوق الإنسان، علامات مضيئة، يستنهض من معينها طالبو الحرية في كل مكان إرادتهم وعزائمهم وصمودهم.. فسلام لحاملي لواء الحرية والوطنية والمبادئ الأممية، وراية الكرامة الإنسانية.. وهنيئا للشعوب المناضلة التي دأبت بنضالاتها وأبدعت بتضحياتها على انتزاع حقوقها وحرياتها والذود عن كرامتها.. وطوبى لشهداء الوطن وشهداء القلم وشهداء المبادئ الأممية والإنسانية.. مثلما دونت أسماؤهم في سجل الخالدين، التي تتألق في سماء المجد خلال هذا اليوم العالمي العاشر من ديسمبر من كل عام.
 
أخبار الخليج 12 ديسمبر 2008