المنشور

7 ديسمبر 1973: الدولة فشلت في الامتحان

منذ أيام قليلة مضت أحْيينا، نحن وأخوتنا في جمعية العمل الوطني الديمقراطي، ذكرى استشهاد المناضلين البطلين محمد غلوم بوجيري والشاعر سعيد العويناتي.
لا أعلم إذا كانت المصادفة وحدها هي التي جعلت هذين المناضلين اللذين ينتميان إلى التنظيمين الرئيسين في الحركة الديمقراطية، أي جبهة التحرير الوطني والجبهة الشعبية، يسقطان شهيدين في شهر ديسمبر بالذات بعد سنة ونيف من إنهاء التجربة البرلمانية الأولى في أغسطس من عام 1975، وبعد ثلاثة أعوام من بدء هذه التجربة المؤودة في السابع من ديسمبر 1973، والذي تمر عليه هذا اليوم خمسة وثلاثون عاماً.

استشهاد محمد غلوم وسعيد العويناتي هو التعبير المُبكر الأكثر دموية عن مشهد القمع الذي طبع الحياة السياسية في البلاد نحو ثلاثة عقود، وكانت تلك الضريبة الباهظة التي دفعتها حركتنا الوطنية وجماهير شعبنا وهي تناضل بعناد ودون كلل أو يأس من اجل الديمقراطية واستعادة الحياة النيابية ومن اجل الحقوق المعيشية.

هذا القمع الذي ساد شكّل في احد وجوهه رداً انتقامياً من قبل السلطة على النجاح الذي حققته حركتنا الوطنية والتقدمية، وفي مقدمتها جبهة التحرير الوطني البحرانية في انتخابات المجلس الوطني، وعلى الدور الذي اضطلعت به فترة الحياة القصيرة التي استغرقتها الحياة النيابية، ومن مظاهره النهوض الكبير للحركة العمالية والنقابية، الذي وجد تعبيراته في تصاعد النضال المطلبي ضد استغلال الشركات الاحتكارية ومن اجل حرية العمل النقابي، حيث تشكلت النقابات ونشطت اللجان العمالية السرية في مواقع العمل المختلفة.

كما أن هذا القمع، المقنن بمرسوم تدابير أمن الدولة الذي رفضه البرلمان بالإجماع، أُريد له أن يكون تدبيراً احترازياً في وجه النضال الشعبي من أجل استعادة الحياة الدستورية.
انتخابات السابع من ديسمبر 1973 والحياة النيابية القصيرة التي تلتها ما زالت تتطلب تسليطاً للضوء عليها، نظرا لثرائها والدروس المهمة التي تقدمها للحاضر، خاصة وان جيلا جديدا من الناشطين سياسيا اليوم لم يعش تلك التجربة، بل إن كثيرين منهم ولدوا بعدها. وهم في أمس الحاجة لأن يعرفوا تفاصيل هذه التجربة ودروسها.

إن قضية اليوم هي قضية الأمس، وستظل أيضاً قضية المستقبل إلى أن نبلغ الهدف المنشود، وهو بناء الدولة الدستورية الحديثة، دولة القانون والمؤسسات، دولة المواطنة المتكافئة، التي يتساوى فيها المواطنون في الحقوق والواجبات، وهو أمر لا يمر إلا عبر الحلول والتوافقات السياسية، لأن السبيل القسري الذي يقترن باستخدام الوسائل والتدابير الأمنية قد جرب على مدار ثلاثين عاما دون أن يؤدي إلى أي حل، بل انه فاقم الأوضاع وباعد من الشقة بين الدولة والمجتمع.
 وجوهر هذا الحل هو إقرار السلطة التنفيذية بضرورة تقاسم السلطة مع الشعب، وطريق ذلك واضح ومحدد وهو تفويض السلطة التشريعية لمجلس منتخب كامل الصلاحية إعمالا لمبدأ الفصل بين السلطات، مع ما يترتب على ذلك من شروط وموجبات وتشريعات.

  وحين يدور الحديث عن هذا الاستحقاق فان الأنظار لا تتجه إلى المجلس النيابي الحالي،  المقيد بعدد لا يُحصى من القيود والنصوص الواردة في دستور 2002 التي تطال صلاحياته التشريعية، بل إن تلك القيود تمتد لتشمل اللائحة الداخلية للمجلس التي فُرضت عليه من الحكومة وما زال عاجزاً على مدار فصلين تشريعيين عن تعديلها، بسبب تعنت السلطة التنفيذية أولاً، وثانياً بسبب الموقف المهادن للكتل الانتخابية الجديدة الطارئة على العمل السياسي في البحرين، والتي كانت معنية بدرجة  رئيسية بطمأنة الحكومة على أنها معها في ما تقول، فيما كان الشعب قد انتخبها لتكون رقيبا ومحاسبا لهذه الحكومة.

أكثر من ذلك فان المجلس الراهن وقد خلا من النواب ذوي التوجهات الديمقراطية والمتجاوزة للانحيازات الطائفية، الذين يمكن أن يشكلوا صوتا مختلفا أكثر تعبيرا عن الهموم الاجتماعية والسياسية ذات الطابع الوطني الشامل، فانه جاء ليفاقم من مأزق الخيارات السياسية في البلاد، ويتحول إلى معيق للبناء الديمقراطي أكثر منه مدافعاً عنه وعاملاً في سبيله.

طبيعيٌ، والحال كذلك، أن تتوجه الأنظار إلى التجربة المضيئة لبرلمان السبعينات الذي أنتجته الحركة الوطنية والديمقراطية في البحرين مدعومةً من الالتفاف الشعبي حولها، لأن هذه التجربة، على نواقصها، شكلت حالاً مُتقدمة في الممارسة السياسية والبرلمانية وفي النهوض الشعبي الذي جسد نضال الشعب، وفئاته الكادحة خاصة، التي لم تتخندق في الشرنقات الطائفية والمذهبية كما هو حالها اليوم.

فضلاً عن أن هذه التجربة، بالإطار الدستوري الذي نتجت عنه، شكلت نموذجاً يقتدى في الشراكة المطلوبة بين الدولة والمجتمع، وكان يمكن لها أن تدفع بوطننا نحو آفاق رحبة، لولا أن السلطة فشلت في الامتحان واختارت الطريق الخاطئ الذي جر على البلاد المزالق.
 
خاص بالتقدمي