لو أننا نظرنا إلى الواقع الثقافي العربي بشيء من المعاينة والتمحيص والتفكر في سبيل النهوض به وانتشاله من الموقع الدوني الذي هو فيه اليوم، لوجدنا انه لا مكانة لما يمكن أن ندعوه بسلطة الثقافة، لا في وسائل الإعلام ولا في وسائل التعليم. رغم انه بوسعنا تعداد مجموعة من مظاهر الإنتاج الثقافي والفني، ألا انه لا يمكن الحديث عن وجود جبهة ثقافية نقدية نظرية إبداعية ذات سلطة فاعلة مؤثرة لا على المستوى الوطني في كل بلد عربي ولا على المستوى القومي العام في مواجهة ثقافة السلطة العربية السائدة كما قال الأستاذ محمود أمين العالم ذات مرة. في هذا السياق علينا أن نفرق بين نمطين أو نموذجين من المثقفين، الأول هو نموذج المثقف المهني أو المتخصص، والثاني هو المثقف بالمعنى الشامل للثقافة، أي ذاك المُدرك للشرط الاجتماعي والمهموم بالشأن العام والحريص على التغيير والتجديد، مع ملاحظة حاجتنا الملحة إلى هذا النوع من المثقفين في مواجهة غلبة وهيمنة النمط الأول، لأن اللحظة العربية الراهنة تقتضي إيجاد إطار عربي شامل، على شكل جبهة تجمع هؤلاء المثقفين. لا يمكننا إغفال حقيقة أن المشهد الثقافي العربي الراهن مشهد مأزوم، لأنه يجمع في داخله النقائض بحكم تعدد الأزمنة التي تتعايش في هذا المشهد، من زمن النهضة إلى زمن الانترنت، كأن هذا المشهد لا ينتقل من قرن إلى آخر، ومن عصر ماضٍ إلى عصر جديد في صيغة التتالي أو التعاقب كما يفترض منطق الأمور، وإنما يتنقل بين هذه الأزمنة جميعا على مستوى التزامن الآني. وفي إحدى أوراقه البحثية أعطى الدكتور جابر عصفور أمثلة عدة على تعايش التناقض: اتساع نطاق التعليم، بما فيه التعليم العالي يترافق مع تدني مستوى البحث العلمي وتضاؤل الحرية الأكاديمية، اتساع وتعدد أجهزة الإعلام، خاصة المرئية منها، يترافقان مع اتساع مساحة المسكوت عنه بالقياس إلى المنطوق به، ادعاء المثقفين العرب بالديمقراطية يترافق مع توسلهم لأساليب قمعية في علاقتهم مع الرأي الآخر، الدعوة إلى تعدد المراكز الثقافية العربية وإعادة صوغ العلاقة بين المركز والأطراف، تترافق مع الميل المتزايد لبسط هيمنة مركز معين على الآخرين، فضلا عن أن دعاة هذا المركز أو ذاك لا يقيمون وزناً لفكرة التعددية داخل هذا المركز نفسه. الثقافة هي اللحمة التي تشد أجزاء المشهد العربي الراهن بعضها بعضاً، وعلينا تصور مقدار الخراب الذي آل إليه واقعنا العربي حين نُمعن النظر في الظواهر أعلاه والتي يبعث تشخيصها على التأمل على الأقل، علنا نرى حجم المخاطر التي تتهدد ما يمكن أن نعده سد الدفاع الأخير في مواجهة واقع آيل إلى المزيد من التردي.
صحيفة الايام
7 ديسمبر 2008