بعد مناقشتنا في الحلقة الثانية مقولة « لا يمثل البحريني الاختيار الأمثل للقطاع الخاص» وعرضناها كحلقة مفرغة بالإمكان تجاوزها متى ما تم سد تلك الثغرة والحجج والانتقال برؤية الرأسمال المحلي إلى مرحلة الرأسمالية الإنتاجية والصناعية ، فليس الأجر المتدني يمنحك إنتاجية عالية حتى وان تذرعنا بالمهارات ، بعد أن تمكنا مهنيا توفير تلك المهارات الناقصة في سوق العمل.
الحجج قابلة للمناقشة ولكل معضلة حلول ومخارج ، بشرط أن يقبل الجميع تسويتها بشكل مرض وعادل في عالم ينبغي أن نعرف طبيعته الرأسمالية وأي نظام سياسي نحن فيه ومدى إمكانية تحقيق الأهداف ، في مرحلتها ونضوج تلك المرحلة في تقبل كل نوع من المطالب والأهداف . أطراف المعادلة في الصراع هنا ثلاثة الحكومة والقطاع الخاص والمواطنون ، وهم هدف الرؤية ومرتكزها الحيوي . وتعرضت الوثيقة باعتراف واضح إن هذه العلاقة بين أطراف متناقضة تشكل خلالا ، وينبغي معالجته لكي نضمن استدامة الازدهار والتنمية لاقتصادنا ، وعلينا باستمرار البحث عن علاجات ناجعة لتخطى الإشكاليات المحتملة والممكنة كما خبرتها الساحة السياسية البحرينية .
وإذا ما تم تخطي الإشكاليات السياسية ، فإن البحث عن بدائل وخيارات اقتصادية لتنويع مصادر دخلنا تصبح أكثر من ضرورة حياتية واقتصادية لتلك التحولات في عصر العولمة، هذا التنويع ونمذجة الاقتصاديات المتنوعة في نظام سياسي واحد يفتح أسئلة مصيرية تحتاج إلى وقفة شجاعة ، خاصة وان الرؤية بالعمق ، تطرح مشروعا يركز على مستقبل مرحلة ما بعد النفط ، فهذه الرؤية تؤسس لمقدمات تلك المرحلة القادمة ولجيل ولد مع الميثاق وسوف يترعرع مع الرؤية ، وهو المعني بتلقي مهارات جديدة لاقتصاد متنوع وعال الكفاءة قادر على المنافسة الدولية في سوق عمل عالمي مفتوح الأبواب . فهل بإمكان اقتصاد ريعي يعتمد على دخل النفط قادر على الحياة والاستمرارية أم انه بات يدرك أن تلك الطاقة عرضة للنضوب وعرضة للتبديل لأسباب لسنا بصددها حاليا ، ولكن المؤشرات العالمية جميعها تؤكد بحث المجتمع الإنساني عن بدائل طاقة نظيفة ، والبحوث والدراسات جارية ومتواصلة في هذا المجال ، وقد قطعت شوطا من التقدم ، وسيكون جيل الرؤية أول من سيحصد ثمارها ، فليس من المستغرب خلال عقدين ، أن تتحرك السيارات ببطاريات كهربائية في شوارعنا ! وان على القطاع الخاص أن يلعب دورا فعالا ومحفزا في العملية الإنتاجية دون خوف وتردد . يبدو أن الرؤية بمنحها القطاع الخاص وتوسيع رقعة الطبقة الوسطى الحالية والقادمة ، أمر حميد ، ولكن هذا العطاء الممنوح أو القسري بفعل واقع السوق ودورة الاقتصاد العالمي المتقلب ، هل يجعلنا نتكلم بكل مصداقية إن لهذا القطاع أسئلته ومخاوفه وحقوقه ، سواء كان القطاع الخاص أجنبيا أو محليا ، غير أن المحلي مصدر نقاشنا هنا ، هو أحقية تدخله الضروري في شراكة سياسية متكاملة ، في كل العملية المجتمعية ، بحيث نجده فاعلا في الحياة السياسية بشكل ايجابي ، بل ونجده في مجلسنا النيابي بقوته ونوابه كتيار مؤثر في صنع التشريعات والقرارات ، فالمسألة ليست فقط توفير مناخ صحي وقانوني للاستثمارات الأجنبية للقطاع الخاص ، وإنما بجعل قطاعنا الخاص أساسيا في عملية الحراك الاجتماعي والسياسي ، بدلا من هامشيته ومخاوفه التي غرزت في وجدانه خلال العقود الأربعة الأخيرة فظل متفرجا ومترددا يؤثر السلامة وبعيدا عن الصدام ، ولكي ننقله بسلام في تلك السكة يحتاج إلى تطمينات مستمرة لدخوله في اللعبة الاقتصادية ، التي ما زال يخشى دخولها بالكامل وبقوة .
وبما أن الحديث في هذه الحلقة تصب مناقشتها في القطاع الخاص وتنوع مصادر الدخل غير النفطي ، فان المبادرة والابتكار كما تقول الوثيقة مهمة ، ولن يستطيع صنع الإبداع والابتكار جهاز بيروقراطي تقليدي في بنية الحكومة ، فعادة الرأسمال الخاص هو من يطلق حوافز العمل الإبداعي أكثر من غيره ، فإلى جانب فكرة تطوير منابع الاقتصاديات الصناعية والمعرفية ذات التقنية العالية بقيمته المضافة ، سيكون على عاتقه مهمات تطوير مجال اقتصاد الخدمات المالية والسياحية ، فهل نترك له حرية أوسع مما هو سائد أم نجد أفكارا متشددة تقف في كل لحظة عرضة للتطوير والتقدم والازدهار الاقتصادي تحت حجج حماية مجتمعنا وواقعنا وبيئتنا المحافظة من الانحراف وغيرها من التصنيفات والمعايير الأخلاقية .
فلا يمكن للقطاع السياحي والفندقي أن يزدهر تحت مظلة ذهنية متشددة، وهذا لا يعني أننا نناقش مسائل مبتذلة ، فلا يمكن أن ينجح مشروع سياحي وفندقي بدون الرفاهية فالسياحة والفندقة « صناعة حضارية بطبيعتها » تعتمد على تلك الجوانب فليس غرف الفنادق الراقية لرجال أعمال عابرين والسلام وحسب ، فهناك أنشطة ترفيهية يحتاجها النزيل والساكن ، في بلد يقدم له كل مستلزمات الراحة والرفاهية . وإذا ما وجد القطاع الخاص الفندقي والسياحي كل يوم منغصات وتدمير سمعة البحرين بمواقف متهورة ودون مسؤوليات ، فكل ذلك لا بد وان يتم تسويته بكل وضوح قانونيا ومهنيا لكي يجد القطاع الخاص والمستثمر الأجنبي طريقه للمملكة ، لتطويرها خدماتيا بحيث تصبح سلسلة دول مجلس التعاون متكاملة بمرافقها الخدماتية ، فمشروع قطاع الحركة السياحية سيكون متكاملا أيضا كاقتصاد جديد للمنطقة .
لا يوجد اخطر على الاستقرار الأمني والسياسي من غياب الوضوح والتوافق الاجتماعي وتحديد المسؤوليات والواجبات والحقوق ، فالرؤية قلقة حيال تلك الحالة الملتبسة والتحديات القائمة ، رغم تقديمها أقصى ما يمكن من مؤشرات ايجابية للمواطن والوطن والازدهار المعيشي لانتشال البحرين من وضعها المتراجع ، مع العلم أن لدى البحرين طاقتها ومقوماتها للنهوض والقدرة على ان يكون لها موضع في الخارطة العالمية .
صحيفة الايام
7 ديسمبر 2008