لابد للدول العربية من أن تخطو خطوات كبيرة باتجاه العلمانية السياسية، بسبب تفاقم الصراعات الاجتماعية التي تتخذ ألواناً دينية ومذهبية وعنصرية وإقليمية، وتأتي الأحداثُ كل يوم بأخبار المذابح والحروب والكوارث التي تجري على أساس ديني ومذهبي وعنصري وقبلي الخ.
انظر إلى تفكك السودان ومذابح نيجيريا والجزائر والعراق والهند وباكستان الخ، لترى بأنكَ لستَ في مأمنٍ من الأخطار.
كما أن العالمَ القديم الذي تسيطر عليه تمام السيطرة الدول الغربية بدأ يفلت زمامهُ، وتتفجر الأزماتُ المالية والاقتصادية والعسكرية، وتعود الدولُ الشمولية الشرقية العسكرية لتصطاد في المياه العكرة وتشجع الفرقاء الدينيين والمذهبيين والعنصريين وتمدهم بالسلاح والتكنولوجيا المتطورة، فهي تريد أموالاً بأي شكل، وهي تريد بلداناً مفككة لتتوغل فيها.
ولهذا فإن الانقلابات على أساس ديني ومذهبي وعنصري ليست بعيدة عن الجيوش العربية، في السنوات القادمة، وهي الغارقة في حياة السكان، ولم تصبح فصائلَ منعزلة عن صراعاتهم الدينية والمذهبية والسياسية والعنصرية، بل هي داخلة فيها، وهذه الجماعات بدورها تستفيد من طابع الولاء الديني والمذهبي والسياسي في التغلغل في أعصاب الجيوش وعروقها الداخلية المخفية.
ومع اشتداد الأزمات الوطنية والإقليمية، وتفكك الدول بسبب الصراعات الدينية والمذهبية والعنصرية وغيرها، فإن توغل هذه الصراعات داخل الجيوش، واتخاذها مبررات للانقلابات و(إنقاذ الأمة) ليست بعيدة عن الاحتمالات المفتوحة.
ولهذا فإن الدول الدينية والدول الكبيرة ذات الأحلام التوسعية تعتمد على غزو الجيوش من الداخل، وتغيير ولاء ضباطها، أو احتكار جماعاتها التابعة لها للسلاح، ورفضها الدخول والانصياع لإرادة الجيوش الوطنية، والذوبان في الجيوش الوطنية والتخلي عن أيديولوجياتها المزعومة بأنها الدين الحق، والمذهب الحق، وهي التابعة لعصابات ودول ناقعة في الفسادين الديني والسياسي.
أو ترى هذه الجماعات المسلحة تقوم بالاضطرابات المستمرة، وتدبر المذابح الرهيبة، وتقتل الأبرياء في مغامرات تدعي فيها أنها تحرر البلد من الطغيان، وتقوم بفصل الأقاليم في حرب ضروس باسم المصلحة الوطنية العليا وهي تبحرُ في مستنقعات من الدم.
بل هناك حتى محاولات الاستيلاء على مدن واحتجاز الرهائن كما جرى في الهند مؤخراً. وقد دمر هؤلاء كل شيء باسم الدين والمذهب والعنصر.
كل هذا يجري والعواصف لم تتنشر انتشارها الكثيف مع تنامي الأزمات الاقتصادية المتصاعدة في الدول الأخرى، التي تنظر لهذه الكوارث كأنها بمنأى عنها، وأنها في عالم مستقر أبدي.
ومن هنا ضرورة وجود جيوش عربية خالية من التوجهات المذهبية والدينية والعنصرية والإقليمية، وأن يكون ولاؤها للوطن والدستور، وألا يُسمح بتوغل هذه الاتجاهات داخل صفوفها، وأن تمنع أية دعاية طائفية ومذهبية وقومية عنصرية داخلها. فاليوم هؤلاء معك وإذ تمكنوا فهم غداً ضدك.
كما أنه يجب عدم بقاء المروجين الدينيين والمذهبيين والعنصريين وغيرهم من أصحاب الرؤى التقسيمية للشعب داخلها، وأن يُضم كل عنصر يرفض هذه التوجهات حين يصيرُ جنديا، فنريد جيوشاً منضبطة قوية لا تدين بالولاء إلا للوطن والدستور، وكل من يقبل ذلك ويلتزم به بصرامة وقوة يكون عسكريا وإلا فليخرج من الجيوش العربية.
ويجب ألا تنظر قيادات الجيوش لمنبت المجند أو عائلته أو طائفته أو إقليمه بل تنظر لمدى التزامه بالإخلاص للوطن والدستور، ومن هنا ضرورة أن تكون الدساتير بمستوى تحديات التاريخ الراهن، وتتحول مثل الجيوش إلى دساتير ديمقراطية علمانية.
إن تربية وطنية علمانية عسكرية باتت ضرورة كبرى في هذه المنزلقات التي تجري، وتجرُ بلداً بعد آخر لدروب الانقلابات والحروب وتجعل الجيوش تتفكك وتنقسم إلى طوائف كما هو حال البلد المتزعزع، فبعضٌ من الدول العربية تحتوي على ثلاثة جيوش متطاحنة مستفيدة من اتساع المساحة في هذه الدول.
ولا شك أن الإصلاحين السياسي والعسكري يترافقان مع بعضهما، وأي إصلاح يعتمد على مدى تغيير ظروف أغلبية الشعب، وعدم وضعها في دوائر الأزمات والفقر المدقع وعرضة لهيمنة الخارج، وحين لا يُلتفت إلى ذلك ويتم جذب المجندين الفقراء العاطلين الجهلة وجعلهم أساس الجندية، فهؤلاء يغدون سبب المشكلات والتمردات لا على أساس الضبط والربط المطلوبين.
كما أن وضع الضباط المؤدلجين والمؤيدين للتيارات المذهبية والدينية والعنصرية على رأس هؤلاء، وفي بلدان تغلي بالأزمات والصراعات، ليس معناه سوى الانفجارات السياسية.
إن الجيوش الحضارية العلمانية كما في الغرب والهند وتركيا وغيرها من الدول التي نأت بالجيوش عن التدخل في الدين والمذهب والسياسة، هي أداة للحكومات التي تصل إلى الحكم عن طريق القانون والدستور، فتخدم سياستها، لا أن تكون هي مصدر السياسة.
وتغدو هذه الجيوش حارسة للدستور في حالة الاضطرابات وانفلات زمام السيطرة، وتمنع العودة للوراء، أي للدولة الطائفية والعنصرية.
والعديد من الكتاب العرب ينتقدون التجربة التركية وسيطرة الجيش وحمايته للدستور، رغم أن هذا الأمر هو الذي جعل تركيا تتطور بهدوء خلال العقود السابقة، رغم قلة موارد هذه الدولة وغياب النفط والموارد الكبيرة الأخرى التي يتمتع بها بعض الدول العربية لكن حياتها كلها اضطراب وقلاقل وانقلابات خلال العقود نفسها.
كما أن الجيش التركي يحمي الحدود وهي مهمته الأساسية، والقمع التركي للأكراد هو بسبب تطرف حزب العمال التركي ومطالبته بالانفصال عن تركيا، وهذا الأمر خطير ويحول أي دولة إلى فسيفساء متناحرة.
يتحول الجيش في الدولة الشرقية العلمانية إلى حام للحدود وحارس للدستور، وليس متدخلا في الصراعات السياسية مادامت الأحزاب تلتزم بالدستور.
أخبار الخليج 4 ديسمبر 2008