المنشور

النظام المالي والنقدي الإقليمي كخيار واقعي


كل عدة أيام تحمل الأخبار من أميركا ما يؤشر على واقع ومستقبل النظام المالي العالمي. في الأسبوع الماضي جاء من فيلادلفيا أن التأميم الفعلي لسيتي جروب مقابل 306 مليارات دولار أبقى خلف عجلة قيادة النظام المالي الأميركي عائلتين فقط: الروتشلديين والروكفلريين، أي Goldman Sachs وJP Morgan chase. وعموما أعلنت الحكومة الأميركية عن استعدادها لأن تقدم للمؤسسات المالية مبالغ نقدية وضمانات بقيمة 4,7 ترليون دولار. وهذا تقريبا يعادل نصف الناتج المحلي الإجمالي (ن.م.إ) الأميركي.
 في الوقت نفسه يتوقع ارتفاع الدين الأميركي ليحلق فوق سحابة 17-18 ترليون دولار[1] ولشدة ما أوقع الدين الأميركي العالم في ورطة فقد سبق للرئيس الأميركي الراحل ريغان بأن قال عنه في حينه إنه نما إلى درجة يستطيع معها الاهتمام بنفسه ذاتيا. على إيقاع هذه الأحداث والاتجاهات انعقدت في منتصف نوفمبر/تشرين الثاني الماضي في واشنطن قمة ‘العشرين G20’ غير الاعتيادية والتي جاءت لتعطي الإشارة بأنها قد حلت بديلا عن قمم ‘السبع الكبار G7’ بعد أن اعترفت الأخيرة مضطرة بأنها لا تستطيع مواجهة الأزمة بدون مشاركة الدول النامية. كما حددت قمة G20 الاتجاه العام الذي يتعين التحرك فيه لتخطي الأزمة. دعا المشاركون إلى تشديد الرقابة على كبريات المصارف العالمية عبر آلية ‘مجموعات التفتيش’، وإلى تنظيم أسواق المشتقات والأوراق المالية. وعلقوا آمالا خاصة على تحقيق نجاحات قبل نهاية هذا العام في إحداث قفزة في المفاوضات المتعلقة بالتجارة العالمية. وأكد البيان على التخلي عن الحمائية الشديدة والتمسك بمبدأ التجارة الحرة واتباع نظم أكثر إحكاما لضبط الأسواق المالية العالمية.
عموما اتفقوا على كل ما يساعد على خفض احتمال السيناريو التصادمي للخروج من الأزمة. غير أن الواضح هو أن الاقتصادات الناشئة والسريعة النمو سوف تضايق عمالقة الاقتصاد القدماء من حيث الحجم. كما تغيرت بنية الاقتصاد العالمي. ففي العقود الأخيرة جرت في البلدان المتقدمة عملية التخلي عن التصنيع Deindustrialization لصالح تطور الخدمات، بينما أصبحت الدول النامية هي المهيمنة في معظم فروع الإنتاج الصناعي. وغدت من كبار مصدري رأس المال الذي يموّل عجز ميزان مدفوعات أميركا وغيرها.
كان من أهم نتائج القمة توسيع تركيبة ‘منتدى الاستقرار المالي’ (أنشأته G7 العام 1999). وهذا المنتدى، إلى جانب صندوق النقد الدولي هما الجهتان المنوط بهما الدور الرئيسي في تجسيد البرنامج الذي أقرته قمة ‘العشرين’. وسيتعين على المنتدى أن يحدد معايير البناء المالي العالمي، بينما حصل صندوق النقد للمرة الأولى على وظائف رقابية كانت من صلاحيات المصارف المركزية وحدها’. وهكذا تتهيأ فرصة تاريخية بألا يبقى الصندوق كما أريد له حين أنشئ العام 1944 من أجل تحقيق المصالح المالية للمساهم الأساسي فيه – أميركا. إنه وإن جرى الحديث عما يشبه ‘خطة مارشال’ القرن الحادي والعشرين، إلا أنه، بخلاف سنوات ما بعد الحرب، ليس هناك الآن بلد يمتلك المال الذي يؤهله لكي يصبح القاطرة الوحيدة لإعادة بناء الاقتصاد العالمي. لقد تنامت أسواق المشتقات بمقاييس فلكية. حجمها خارج البورصات يقدر اليوم بـ 595 ترليون دولار – أي، بما يفوق حجم (ن.م.إ) العالمي بأكثر من 9 مرات! وفي البورصات وصل حجم المشتقات (أوبشنز وفيوتشرز) حسب تقديرات بنك التسويات العالمية، إلى 3,2 كوادرليون[2]دولار هذا النمو لأسواق المشتقات يقوم على أنها سائلة وخاضعة للمضاربة، وهي تلتف على النظم الوطنية والعالمية، ما يطرح السؤال حول الأمن والاستقرار في هذا القطاع المالي، الذي يمتلك علاقة وسيطة بالاقتصاد الحقيقي. وحسب رجل المال الشهير جورج سوروس فإن الأزمة الحالية على قدر من الجدية وباتت تعني عمليا نهاية حقبة الرأسمالية المالية. وبرأيه أيضا فإن الاقتصاد العالمي بدأ الآن التحرك من ‘الأصولية السوقية’ إلى درجة أعلى من تنظيم النظام المالي. لكن ذلك لا يعني أفولا تلقائيا للمؤسسات والأسواق المالية[3]. المخاطرة الكبرى اليوم هي في أنه إذا أدت الأزمة الحالية إلى كساد عالمي فإن المستثمرين سيطالبون (وهم بالفعل بدؤوا يطالبون) برفع العائد على المخاطر. وفي هذه الحالة فإن حجم المال المتاح للمؤسسات المالية من أجل الحصول على الأرباح، يأخذ في التقلص. ونتيجة ذلك هو ما يحدث الآن: تختفي عشرات الآلاف من الوظائف، بعض المصارف تلغي تماما فروعا عاملة حول العالم. وهي تعود للأعمال الأقل ربحية (لكن الأقل مخاطرة) مع العملاء التقليديين من أفراد وشركات باعتبار هذا الشكل من النشاط الاقتصادي هو الأكثر شفافية ووضوحا. مع هذا الميل العالمي يتوقع بعض الاقتصاديين أن العالم يدخل مرحلة الإقليمية المالية[4]. ستواصل المصارف أنشطتها مع الزبائن المضمونين الذين تعرفهم جيدا، وهؤلاء عادة هم الأقرب جغرافيا. وبما أن المال المتاح سيكون أقل وبالتالي أغلى، وكذلك المخاطر، فإنه سوف تنعدم الوفرة المالية التي تدعم تحقيق الطموحات نحو العالمية. هذا أيضا سيعني تطور مراكز المال الإقليمية وتصحيح العلاقات النقدية الإقليمية. وإلى حد ما يجد هذا تفسيره في أن مجموعات المصارف العالمية المتأثرة بالأزمة تجد مشترين لها من قبل مجموعات إقليمية أخرى. ويؤكد مثل هذا التحول الموضوعي أهمية العمل على سرعة المضي في تحقيق النظام النقدي والمالي الخليجي الموحد. من جهة أخرى، يتوقع هؤلاء الاقتصاديون تزايد أهمية المبادلات التجارية الحقيقية. ففي السنوات الأخيرة وبسبب النمو غير الاعتيادي للنظام المالي فإن أسعار صرف العملات، وكذلك أسعار المواد الخام اعتمدت على تدفقات المال أكثر منها على الموازين التجارية. أما الآن فستستعيد التجارة أهميتها التي كانت في الأصل. ولهذا فسوف لن يلحظ حدوث انعطاف حاد نحو الإقليمية التجارية. فلقد ترسخت في العالم تخصصات قطاعية حسب الأقاليم على أساس من تقسيم العمل الدولي. ومن الصعب أن تتغير هذه الصيغة سريعا. وهكذا فسيبقى العالم يستورد الإلكترونيات من شرق آسيا والمنتجات الزراعية من أميركا اللاتينية والنفط من الخليج. وبناء على هذا التحول الموضوعي الثاني تكتسب مسألة الاستثمار اللاحق في الصناعة النفطية واستعادة زمام السيطرة من قبل أوبك في تحديد الإنتاج والأسعار أهمية ترتبط بمستقبل دور صناعتي النفط والغاز في الاقتصاد الخليجي ولاختيار الموقع الأفضل في إطار التقسيم الدولي للعمل مدعوما بنظام مالي ونقدي إقليمي.

1 ‘زافترا’ ، 2008,11,26
1 2 كوادرليون = 1000 ترليون
3 للتعرف على آراء سوروس في الأزمة العالمية أنظر موقعه http://web.mit.edu
4 ألكسندر كوكشاروف ، مراسل الأكسبرت من لندن، ‘إكسبرت’، 24 نوفمبر .2008
 
الوقت 2 ديسمبر 2008