المنشور

الديمقراطية و التنمية و ثقافة اللاعنف


سوف يقتصر مضمون هذه الورقة على الحروب الأهلية باعتبارها الأكثر تفشيا وقابلية للتكرار والأطول مدى واستمرارية في عالمنا. ولا يحتاج المرء في هذا السياق إلى كبير عناء ليتوصل إلى حقيقة أن عدد الحروب العالمية والإقليمية ، من تلك التي خاضتها مجموعة من الدول المتحالفة ضد أخرى أو خاضتها دولة ضد جارتها في العصر الحديث يقل كثيرا جدا عن عدد الحروب الأهلية التي تورطت فيها جماعات متنافسة داخل حدود كيان سياسي ما سواء من اجل رفع مظلمة أو الإطاحة بالنظام القائم أو نيل الحكم الذاتي أو الانفصال في كيان مستقل أو تحقيق مشاركة سياسية أوسع.
  


 

الديمقراطية و التنمية و ثقافة اللاعنف
 
كحائل ضد الحروب الأهلية

 
Democracy, Development, and the Culture of No Violence as a Solution Against Civil Wars
 
 
ورقة مقدمة من
الدكتور عبدالله المدني
 
باحث ومحاضر أكاديمي في العلاقات الدولية الدراسات الآسيوية 
  
A Paper presented by Dr. Abdulla Elmadani, Academic researcher and lecturer in International Relations and Asian Affairs 
    
  
  
  
  


 

جمعية المنتدى بالتعاون والتنسيق مع نادي الخريجين – المنامة – نوفمبر / تشرين الثاني 2008
 
المقدمة:
 
تنقسم الحروب من حيث نطاقها الجغرافي إلى حروب محلية وإقليمية وعالمية ، ومن حيث مداها إلى حروب محدودة و شاملة ، ومن حيث أدواتها إلى تقليدية و نووية ، ومن حيث أنواعها إلى حروب عسكرية ودبلوماسية واقتصادية وإعلامية ، ومن حيث أغراضها إلى حروب استعمارية و حروب تحررية وحروب انفصالية وحروب حول السيادة والحدود والمياه.
 
وإذا ما استثنينا الحروب الحميدة مثل الحرب على الفساد أو الأمية أو المخدرات أو الأوبئة ، فانه من مسلمات الأمور أن الحروب الأخرى كلها ذات نتائج كارثية واكلاف عالية.
 
فهي لا تتسبب فقط في تجميد خطط التنمية وتوجيه الموارد المخصصة لها نحو المجهود الحربي ، ولا تتسبب فقط في هدم وتدمير البنى التحتية وكل ما بنته السواعد الفتية من معالم حضارية على مدى عقود من الزمن ، ولا تتسبب فقط  في سرقة زمن ثمين من عمر الإنسان المحدود تتجمد خلاله أنشطته وأحلامه وطموحاته وحقوقه الأساسية ، وإنما أيضا تتسبب في إزهاق الأرواح البريئة وتحويل جزء من المجتمع إلى أيتام ومشردين ومعاقين لا يرتجى منهم نفعا أو يصعب إعادة تأهيلهم ودمجهم في اطر الحياة الفاعلة ، فضلا عن تسبب الحروب في تدمير البيئة و إلحاق الأذى بالحياة الفطرية. والأسوأ من كل هذا ، أن الحروب – لا سيما الطويلة منها – تتسبب في تفشي ثقافة العنف وتأصلها في الضمائر ، وبالتالي ظهور جيل لا تعرف نفسه سوى لغة الدم ولا تعرف أياديه سوى حمل السلاح وأدوات التدمير بدلا من القلم ومعاول البناء ، وبما يجعل إعادة تأهيله وتوجيهه نحو قيم السلام في المدى المنظور أمرا صعبا.
 
الحروب الأهلية:
 
سوف يقتصر مضمون هذه الورقة على الحروب الأهلية باعتبارها الأكثر تفشيا وقابلية للتكرار والأطول مدى واستمرارية في عالمنا. ولا يحتاج المرء في هذا السياق إلى كبير عناء ليتوصل إلى حقيقة أن عدد الحروب العالمية والإقليمية ، من تلك التي خاضتها مجموعة من الدول المتحالفة ضد أخرى أو خاضتها دولة ضد جارتها في العصر الحديث يقل كثيرا جدا عن عدد الحروب الأهلية التي تورطت فيها جماعات متنافسة داخل حدود كيان سياسي ما سواء من اجل رفع مظلمة أو الإطاحة بالنظام القائم أو نيل الحكم الذاتي أو الانفصال في كيان مستقل أو تحقيق مشاركة سياسية أوسع. فمن بين 54 حربا شهدها العالم في العقد الأخير من القرن الماضي ومطلع القرن الحالي ، كانت هناك  خمسون حربا أهلية. أما لجهة الضحايا البشرية،  فقد أودت الحروب المحلية والداخلية بحياة ما لا يقل عن مائة وثلاثين مليون نسمة منذ عام 1945 مقارنة بثلاثين مليون ضحية للحروب الدولية في الفترة نفسها بحسب دراسة روميل. وتشير الإحصائيات المتوفرة عن ضحايا حرب أهلية واحدة هي الحرب الأفغانية إلى أن عدد من قتلوا خلال عقدين من القتال وصل إلى 2.5 مليون نسمة ( أو عشرة بالمئة من إجمالي عدد السكان وبواقع قتيل كل خمس دقائق)  بينهم حوالي 400 ألف قضوا بسبب الألغام التي زرعتها الأطراف المتحاربة، ناهيك عن تشريد نحو 6.5 مليون نسمة (أو 30 بالمئة من عدد السكان) ودفعهم إلى مخيمات البؤس والشقاء في إيران وباكستان وغيرهما. ويتحمل بعض زعامات العالم الثالث مسئولية إشعال الحروب في أوطانهم و التسبب في مقتل مئات الآلاف من مواطنيهم كنتيجة لطغيانهم واستهتارهم ونرجسيتهم وتعلقهم بالأوهام وخلفياتهم المريضة. ويكفي أن نعرف أن ديكتاتور أوغندا الأسبق عيدي أمين تسبب في مقتل 300 ألف أوغندي وان نظام سوهارتو قتل نحو نصف مليون اندونيسي في الستينات ناهيك عن 150 ألفا من التيموريين في السبعينات والعقدين التاليين ، وأن جزار كمبوديا بول بوت قتل ما لا يقل عن مليون مواطن بريء.
 
لقد كان من المأمول أن تتوارى الصراعات والحروب الإقليمية ويسود مناخ السلام والاستقرار بانتهاء الحرب الباردة ما بين القطبين الأمريكي والسوفياتي والتي لجأ خلالها الطرفان إلى كل الوسائل لتأكيد تفوقهما ونفوذهما بما في ذلك إشعال ما سمي بالحروب بالوكالة في مناطق كثيرة من العالم الثالث. وبالفعل فقد شهدت الفترة التالية مباشرة لانتهاء الحرب الباردة اتجاهات جادة نحو الجنوح إلى السلم و إغلاق ملفات الحروب ، كان من نتائجها مثلا انتهاء حرب الجهاد في أفغانستان و الصراع العنصري في جنوب أفريقيا والحروب الأهلية في لبنان وكمبوديا وانغولا واريتريا والسلفادور وغيرها. إلا أن هذه الحالة لم تستمر طويلا. فسرعان ما اشتعلت الحروب الأهلية مجددا في أماكن جديدة مثل البلقان وآسيا الوسطى والقوقاز والصومال و راوندا و الكونغو و الجزائر و اليمن وغرب أفريقيا، كما عاد القتال مجددا إلى أفغانستان واستشرى بوتيرة اعنف في سريلانكا وجنوب الفلبين، كنتيجة لانبعاث النعرات القومية و القبلية والجهوية والدينية والنزعات الانفصالية المتداخلة مع مشاكل الفقر وانعدام الفرص الاقتصادية وغياب العدالة. وهكذا تحولت دول ، كانت قد نجحت على مدى عقود في إرساء السلام الداخلي و إبعاد نفسها عن شبح الحروب مثل يوغسلافيا والصومال و نيبال و سيراليون و ليبيريا و غينيا، إلى ساحات للصراعات الأهلية المريرة ، بل أدت هذه الصراعات في بعض الحالات إلى اختفاء بعض الكيانات من الخارطة كما في حالة يوغسلافيا ، أو غياب مقومات الدولة كما في حالة الصومال، أو امتداد الحرائق إلى الجوار المتداخل عرقيا أو دينيا أو ثقافيا مع شعوب الدولة مصدر الحريق على نحو ما حدث في غرب أفريقيا و القوقاز.
 
ورغم أن بعض القوى العالمية والإقليمية المؤثرة ومعها المنظمات الدولية والهيئات الإنسانية حاولت أن تمد يد المساعدة من اجل إطفاء هذه الحرائق الجديدة أو على الأقل الحد من تأثيراتها واكلافها العالية ، من خلال التوسط بين الفرقاء المتنازعين أو ضخ المساعدات الإنسانية والتنموية أو إرسال قوات لحفظ السلام ، فان الفشل كان لها بالمرصاد في معظم الحالات لأسباب متنوعة. من هذه الأسباب تمسك بعض الفرقاء بالحلول المطلقة والشاملة ودونما أدنى اعتبار لمباديء النسبية والمرحلية في التعاطي مع  الحلول أو ظهور توجه متصلب ضمن احد أطراف النزاع و تطوره سريعا إلى حركة منشقة على الجماعة الأم الراغبة في السلام ، على نحو ما حدث في ملف الحرب الأهلية في جنوب الفلبين.  ومنها أيضا نظر فريق من فرقاء النزاع بعين الشك والارتياب إلى جهود الوساطة الخارجية أو المساعدات الأجنبية الإنسانية والاعتراض عليها بحجة اللاحيادية أو انتهاك السيادة الوطنية على نحو ما يحدث راهنا في ملف دارفور السوداني.
 
ومع بزوغ شمس القرن الحادي والعشرين، دخلت الحروب والصراعات في منعطف خطير غير مسبوق بقيام الجماعات المتطرفة في العالم الإسلامي بشن حرب أممية لا تعرف حدودا ضد الآخر في الداخل والآخر، انطلاقا من مشروع طوباوي و مفهوم ديني جهادي ضيق يعطي للذات وثقافتها حق مقاومة وإخضاع كل ما عداها من ذوات وثقافات وأنظمة ، الأمر الذي حول العالم بأسره إلى مكان غير آمن يمكن أن تقع فيه حوادث التفجير والاغتيال والقتل والخطف في أية لحظة. ومما ينذر بمخاطر أعظم هو لجؤ أصحاب هذا المشروع إلى استغلال الحروب الأهلية القائمة للنفاذ إلى ساحاتها وتأجيج وتيرتها وإطالة ديمومتها من اجل استخدام أراضي الدولة المعنية كساحة لتصفية الحسابات الخاصة مع دول وشعوب يعادونها، على نحو ما لوحظ في الشيشان و طاجيكستان وجنوب الفلبين وجنوب تايلاند ، وأخيرا في العراق.
 
الحروب الأهلية كعامل تدمير لنماذج صاعدة
 
وفي سياق بيان كيف أن الحروب تعيد إلى الوراء أشواطا دولا متأهبة للصعود وتسير بخطى تنموية واثقة، نستعرض فيما يلي حالتي لبنان و سريلانكا كمثالين:
 
النموذج اللبناني: استطاع لبنان منذ استقلاله في الأربعينات أن يختط نهجا سياسيا واقتصاديا متميزا عن كل جاراته. ففي الوقت الذي كان فيها بعض شقيقاته في سبات عميق و البعض الآخر تعصف بها الأنظمة الديكتاتورية والانقلابات العسكرية والتخبطات الاقتصادية، برز لبنان كواحة للديمقراطية والحريات والتعايش السلمي في ظل نظام مؤسساتي قائم على التعددية والعلمانية ونهج الاقتصاد الحر، واستطاع من خلال هذه الأطر أن يبز الآخرين في مجالات كثيرة وبما وضعه في مصاف الأمم المتحضرة رغم ضعف موارده الذاتية وخلوه من الثروات الاستراتيجية. إلا أن حربه العبثية المجنونة على مدى 17 عاما ابتداء من العام 1975 ( التي أودت بحياة ما لا يقل عن 150 ألفا من مواطنيه وفقدان 17 ألفا آخر ودمرت ممتلكات وأصولا لا تقل قيمتها عن 30 بليون دولار) حولته إلى ركام وحطام وسرقت منه الفرصة وأعادته عقودا من الزمن إلى الوراء في الوقت الذي كان فيه الآخرون يبنون ويضيفون إلى إنجازاتهم التنموية. ولكم أن تتخيلوا ما كان يمكن للبنان أن يكون عليه اليوم ، تأسيسا على وضعه الزاهر المتقدم وقتذاك و ما ظهر في المنطقة من ثروات وحراك ، لولا تلك الحرب المجنونة. هذه الحرب التي لئن ساهم في تأجيجها أطراف خارجية ، فان مسئولية إشعالها الأولى تعود إلى زعامات محلية قصيرة النظر ومصابة بداء العظمة والنرجسية ومنساقة إلى غوغائية الشارع بدلا من أن تقود هي الشارع وتهذب مسلكه وتغرس فيه قيم اللاعنف.
 
النموذج السريلانكي: تعتبر سريلانكا من أوائل الدول التي حصلت على استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية وبالتزامن مع استقلال شبه القارة الهندية تقريبا. كما أنها إحدى الدول القليلة في العالم الثالث التي انتهجت منذ استقلالها النهج الديمقراطي التعددي ونجحت في حماية نفسها من غول الانقلابات العسكرية. ورغم قلة مواردها و تذبذب خططها التنموية ما بين النهجين الحر والاشتراكي ، فإنها استطاعت تحقيق إنجازات مشهودة في مجالات محو الأمية و خفض معدلات المواليد ونشر الخدمات الصحية وتنمية القطاع السياحي. فهي مثلا نجحت في خفض معدلات المواليد من 63 لكل 1000 نسمة في الستينات إلى 20 لكل ألف نسمة في الثمانينات ، ونجحت بفضل تحسين الخدمات الصحية في رفع معدلات الأعمار من 65 إلى 70 ، و نجحت بفضل تحسين الخدمات التعليمية في محو أمية 80 في المئة من نسائها و 90 بالمئة من رجالها. وكان بامكان هذا البلد أن يخطو خطوات بعيدة نحو التنمية والاستقرار ورفع مستويات المعيشة ، لولا ظهور التمرد المسلح على الدولة بقيادة حركة النمور التاميلية الانفصالية والذي واجهته الدولة بعنف مضاد عبر توجيه كل مواردها المتواضعة نحو المجهود الحربي. فمنذ عام 1983 دخل الطرفان في مستنقع العنف والعنف المضاد ، الأمر الذي كان له تأثير مدمر على الوضع العام نجد تجلياته في زيادة معدلات البطالة وانتشار تجارة المخدرات وارتفاع معدلات الانتحار (تعتبر سريلانكا اليوم من أعلى الدول في معدلات الانتحار السنوية بواقع 55 لكل 100 ألف نسمة) و تراجع القطاع السياحي الذي كان من أهم القطاعات المولدة للعملة الصعبة. ولئن كانت الحكومات السريلانكية المتعاقبة تتحمل مسئولية انفجار الوضع كنتيجة لتهميشها أوضاع الأقلية التاميلية في مقابل تعزيز أوضاع الأكثرية السنهالية ، فان حركة نمور التاميل المتمردة ضربت المثل في الاستهتار بحياة الإنسان وكل القيم والأعراف عبر تبنيها لأشكال غير مسبوقة من العمليات العنيفة الموجهة إلى المدنيين قبل العسكريين والى البني التحتية قبل المنشآت الحربية. هذا ناهيك عن تورطها في أعمال وحشية من قبيل الاغتصاب وتهديد الأسر وخطف الأطفال وغسل أدمغتهم قبل دفعهم إلى ساحات الموت وتعزيز مواردها عبر الاتجار بالسموم والتهريب وغسيل الأموال وفرض الإتاوات بالقوة ، وترسيخ قيم الديكتاتورية وعبادة الشخصية في صفوف مقاتليها.
 
إن النموذجين اللبناني والسريلانكي مهمان لجهة أنهما يقيمان الدليل على  أن حماقات بعض النخب القيادية و غرورها ولاواقعيتها  وضيق افقها السياسي وعدم اتعاضها بالتجارب السابقة وتمسكها بالحلول المطلقة المتناغمة مع مصالحها وحدها وتفردها بالقرار، تودي بأمم حية بأكملها نحو الهاوية ، قاطعة عليها طريقا كان يمكن أن يوصلها إلى العلا. وهما مهمان أيضا لأنهما يقيمان الدليل على أن الديمقراطية لا تحول  دون وقوع الحروب الداخلية ، إن لم تلازمها جملة من العوامل الأخرى على رأسها تمكن ثقافة اللاعنف من النفوس والضمائر والعقول.
 
 
ما العمل؟
 
لا هدف مهما كان ساميا أو نبيلا  يمكن – على الأقل من وجهة نظري الشخصية – أن يبرر اللجؤ إلى سفك الدماء وتدمير الأوطان ونشر ثقافة العنف وانتزاع الأمم من دروب التنمية والسلام والاستقرار ، سواء كان العنف الذي نتحدث عنه هو عنف الدولة ضد مواطنيها أو عنف الحركات السياسية ضد الدولة. فهناك على الدوام سبل أخرى  لتحقيق الأهداف ورفع المظالم دون إراقة الدماء ، وان طال الانتظار.
 
وفي هذا السياق، لا يمكن للمرء إلا أن يتوقف بإجلال عند التجربة الهندية، ويتساءل كيف استطاعت هذه الأمة أن تنجو من الحروب الأهلية وتواصل مسيرتها بثقة و اطمئنان فيما انجرفت جاراتها القريبة والبعيدة نحو الصراعات المدمرة؟
 
لقد راهن الكثيرون على سقوط الهند في دوامة من الحروب الأهلية المريرة، وبشروا بسرعة تفككها إلى دويلات ، انطلاقا من حقيقة شكلها الموزاييكي شديد التعقيد ان لجهة الاثنيات أو لجهة الأديان أو الثقافات ، لكن مثل هذا الرهان فشل فشلا ذريعا. وهاهي الهند بعد أكثر من ستين عاما على استقلالها واحدة من أكثر كيانات العالم توحدا واستقرارا ، بل أكثرها نموا وقابلية لاحتلال موقع بين الأمم الكبيرة المؤثرة في شئون الكون. فما الذي جنب الهند ما أصاب أمم العالم الثالث الأخرى من دمار و تفتت ولا استقرار؟
 
انه في البدء ثقافة اللاعنف والنضال السلمي لتحقيق الأهداف التي أصبحت الهند مهدها منذ أن حمل المهاتما غاندي لواءها كوسيلة وحيدة لتحرير البلاد من المستعمر. لم يخترع غاندي هذه الثقافة بقدر ما بعثها من مكامنها السحيقة في المعتقدات البوذية والهندوسية وأعاد ترسيخها في نفوس مواطنيه دونما إكراه أو ضغوط. ورغم بعض الاعتراضات من هنا أو هناك في البدايات ، فانه سرعان ما التحقت به الملايين مؤيدة ومباركة ، بل وجاعلة من ثقافة اللاعنف أسلوب حياة. وكان من نتائج هذا الأسلوب البسيط غير المكلف أن كسب غاندي وزملائه في الحركة الوطنية احترام العالم اجمع بما في ذلك احترام الأحزاب والتنظيمات والنقابات في بلد المستعمر ، ووضع الإدارة الاستعمارية في موقف حرج ، وهي تتصدى لجمهور اعزل لا يفجر ولا يقتل ولا يخطف ولا يدمر ، إنما يكتفي بالمقاطعة والعصيان المدني الشامل. على أن الأهم من هذا كله أن ثقافة اللاعنف الغاندية صارت قبيل استقلال الهند وبعده جزءا من ثقافة النخب والأطياف السياسية وبما ساهم طيلة عقد الأربعينات في قيام حوار سلمي بناء فيما بينها بهدف الاتفاق على برنامج وطني يحظى بالإجماع ولا يقصي أو يهمش الآخر من اجل إدارة هند ما بعد الاستقلال وتنميتها والمحافظة على وحدتها الوطنية. هذه الثقافة معطوفة على الواقعية والموضوعية وبعد النظر و نبذ الشعارات الطنانة وتغليب المصلحة العامة على المصالح الفئوية هي التي ساعدت على الخروج بثوابت تقول بأن ديمومة الهند لا يمكن أن تتحقق إلا بالآتي:
 
·   حكم ديمقراطي تعددي يستند إلى النظام البرلماني المتميز عن النظام الرئاسي الذي اخترعه الفرنسيون والذي قد يؤدي إلى صراعات ما بين رئيس الدولة ورئيس حكومته ، خاصة حينما لا يكون الاثنان منتميان إلى حزب الأغلبية. ففي ظل هذا النظام تحدد صناديق الاقتراع وحدها من يحكم البلاد ومن يحاسبه في البرلمان ويمنعه من التفرد بالقرار.
·   حكم فيدرالي يتيح للأقليات وأصحاب الثقافات المتميزة والطموحات الجهوية نوعا من الاستقلالية لإدارة شئونها الداخلية بمعرفتها ووفق مرئياتها ضمن الخطوط العامة التي تقررها السلطة المركزية.
·   حكم علماني يقوم على المواطنة الحقة، بمعنى تساوي المواطنين كافة في الحقوق والواجبات، وإلغاء أي نوع من أنواع التمييز الديني أو الثقافي أو المذهبي، بمعنى  ألا يعطي لدين أو مذهب – حتى لو كان دين الأغلبية – ميزة على الديانات والمعتقدات الأخرى ، ويحول دون تأثيرها على صنع القرار السياسي.
·   سياسات داخلية تتجنب عسكرة المجتمع و تبعد المؤسسة العسكرية عن التسييس و التدخل في الشئون السياسية وتخضعها للساسة بدلا من أن يكون الساسة خاضعين لمشيئتها.
·   سياسات خارجية تتوخى الحياد الايجابي إزاء الصرعات الدولية والإقليمية وتنأى بالبلاد عن الأحلاف العسكرية ، وتتميز بالمرونة الكافية للتكيف مع المتغيرات الدولية واختلاف موازين القوى العالمية والإقليمية.
 
وقد يقول قائل أن هذه الثوابت والأطر ، لم تحل دون وقوع الصراعات الداخلية العنيفة في الهند ما بين المسلمين والهندوس مثلا ، ولم تحل دون ظهور حركات انفصالية و رفعها السلاح في وجه الدولة كما فعل السيخ في الثمانينات بهدف إقامة دولة خاليستان المستقلة في البنجاب أو كما يفعل الماويون الهنود من وقت إلى آخر في الأجزاء الشمالية الغربية من الهند بهدف إقامة كيان مستقل على النمط الماوي. وهذا صحيح ، لكن ما لا يجب أن نغفله هو:
-   أن الصراعات الداخلية العنيفة في الهند لم تشكل قط ظاهرة واسعة ومتكررة. فالصورة العامة هي جنوح الكل نحو السلام والاستقرار والبناء وحل النزاعات من خلال ما يوفره النظام من قنوات دستورية وديمقراطية.
-   أن ما حدث من صراعات عنيفة في الهند كانت على الدوام بتأثير و تحريض من قوى خارجية منافسة للهند أو منزعجة من سياساتها و مواقفها الخارجية.
-   أن الاشتباكات الدموية ما بين هندوس الهند ومسلميها كانت على الدوام مقتصرة على مناطق بعينها ومن وحي ظروف تاريخية قديمة، أو ذات علاقة بصراعات اقتصادية، بمعنى انه لم يتوسع نطاقها لتشمل الأمة كلها ، خلافا لما جرى ويجري في مناطق أخرى.
 
الاستنتاج والحلول
 
تتفاوت أسباب الحروب الأهلية كما تختلف حدتها ومداها الزمني وأهدافها من دولة إلى أخرى ، لكنها تجتمع بطبيعة الحال في اكلافها العالية وآثارها المدمرة على الدول والمجتمعات والشعوب وخطط التنمية ، دعك من حرمان الأبرياء من حقهم  في الحياة أو مصادرة أحلامهم لأزمان قد تطول.
 
وللحيلولة دون نشوب الحروب الأهلية أو على الأقل احتواءها والتخفيف من آثارها ، لا بد من تحرك سريع على مستويين: محلي و عالمي.
 
فعلى المستوى المحلي
 
لا مناص من إشاعة وترسيخ وتفعيل قيم الديمقراطية والعلمانية والفيدرالية واللاعنف:
1- الديمقراطية بأشكالها ومعالمها المعروفة في الأمم المتحضرة كقيمة هي خلاصة ما تفتق عنه العقل السياسي لجهة إقامة العدالة والمساواة أمام القانون وتحقيق مشاركة المواطنين كافة في صنع القرار ، بما في ذلك قرارات الحرب والسلام التي تخضع في المجتمعات الديمقراطية للنقاش والحوار والمساءلة الشعبية ، بينما تخضع في المجتمعات الاوتوقراطية و الأنظمة الثيوقراطية لأهواء الزعيم الفرد وبطانته المنافقة أو الولي الفقيه المعصوم. ولا حاجة للتذكير أن الأنظمة الديمقراطية الحقيقية نادرا ما تلجأ إلى رفع السلاح ضد فئة من مواطنيها.
2- العلمانية كقيمة حائلة دون تفضيل أصحاب معتقد ديني على حساب معتنقي دين آخر، ولا سيما في الكيانات السياسية متعددة الثقافات والأديان. فالمجتمعات العلمانية عادة ما تتوارى فيها النزعات العنيفة المؤسسة على الدفاع عن المقدس ، وتفوت الفرصة على أصحاب الغايات المشبوهة لركوب موجة الدين لتحقيق مآربهم.
3- الفيدرالية كحل لا غنى عنه في الدول مترامية الأطراف ذات الأعراق والثقافات المختلفة لجهة احتواء الطموحات الجهوية ومنع تحولها إلى حروب انفصالية.
4- اللاعنف والتسامح وقبول الآخر كثقافة يجب أن تتسيد مناهج التعليم منذ الصغر كيلا ينشأ الفرد وهو مشبع بكراهية الإقصاء والعنف والتحريض عليه في ممارساته ، وبما يحول دون انغماسه في أية دعوة أو نشاط لحمل السلاح مهما تعرض للتهميش والإحباط. إذ أن من طبيعة ثقافة اللاعنف والتسامح أنها تتعامل مع الفكر والفكر يتطلب الحوار والحوار يمنع انتشار الحروب المرذولة ويقي الإنسان من التفكير بلغة الإقصاء والقتل.
 
أما على المستوي العالمي
 
 فالمجتمع الدولي ، ولا سيما أطرافه الكبرى والفاعلة ، مطالب بمجموعات إجراءات قوية وحاسمة تشمل:
1- زيادة ضخ المساعدات الاقتصادية لدول العالم النامي حيث بؤر النزاعات والحروب الأهلية الأخطر التي أحد أسبابها الفقر والإحباط والجهل ، مع ربط هذه المساعدات بمدى توجه الدول المعنية نحو الديمقراطية وقيم السلام والحوار. وهذا سوف يحول كثيرا دون تفاقم الشعور بالإحباط واليأس المؤدي إلى الانخراط في العنف والحروب.
2- تشديد المراقبة على مبيعات الأسلحة للكيانات المتهمة باستخدام السلاح في قمع شعوبها ، وعلى تسرب أدوات العنف للجماعات المتمردة على حكوماتها.
3- معاقبة الدول التي تتدخل في الحروب الأهلية المندلعة في دول أخرى سواء كان التدخل عبر مد احد أطراف النزاع بالسلاح أو تأييده سياسيا  أو تحريضه على عدم الجنوح نحو السلم.
4- إصدار إعلان عالمي يثبت الحدود الجغرافية الراهنة لأعضاء المجتمع الدولي كحدود دائمة غير قابلة للتغيير انفصالا أو اقتطاعا أو تفككا ، لقطع الطريق على أحلام  الجماعات العنيفة ذات الأهداف الانفصالية ، مع التأكيد على الفيدرالية وما تتضمنه من حكم ذاتي ضمن السيادة الوطنية كحل لاحتواء النزعات القومية والجهوية.
 
الخاتمة
أن الشجاعة أيها السادة ليس في أن تهلك نفسك والآخرين من اجل أي هدف ، وإنما الشجاعة هي في أن تنجز هدفك وتعود سالما لتتمتع بثمرته وهذا ما لا يمكن تحقيقه بالحروب. والشجاعة ليس في مجاراة خصمك العنيف بعنف مضاد، وإنما في إحراجه عبرعدم مجاراته في العنف والتمسك بالقيم الإنسانية. والشجاعة ليس في حمل السلاح لتدمير الخصم ، وإنما في حمل معاول التحصيل والبناء للارتقاء بالذات وإشعار الخصم بتخلفه وتميزك عنه.
والمؤسف حقا أن عالمنا العربي الماضي بوتيرة اكبر من أي وقت مضى نحو ثقافة العنف والتحريض والخطب والشعارات الأيديولوجية وتحميل الآخر مسئولية فشله ، لم يستفد إطلاقا من تجارب دول كاليابان وماليزيا والهند ، بل وحتى فيتنام، التي طلقت الحروب والأيديولوجيات والشعارات طلاقا بائنا واقترنت بدلا من ذلك بالسلام والتنمية والبناء والتصالح مع الآخر. ولعل أفضل ما يؤكد هذه المقولة أن مناهجنا لا تزال تتحدث للناشئة بعبارات التمجيد والتقديس المسهبة عن حروب أسلافنا وشجاعتهم في ساحات الوغى والجهاد وإخضاع الآخر، مقابل اسطر متوارية وخجولة عن قيمتي العلم والعمل. هاتان القيمتان المقدستان اللتان إن تهاون الفرد فيهما في المجتمعات الآسيوية عد خائنا لبلاده وأمته و بالتالي منبوذا من قبل أسرته و مجتمعه.